روى أحد الأصدقاء حكاية عن رحلة فضاء قام بها علماء فلك، فقال:
اتفق زمرة من علماء الفلك أن يرصدوا كوكب الأرض من الأجرام الأخرى تماما كما يرصدون تلك الأجرام من سطح الأرض.
وذات نهار، بينما هم ينظرون الكوكب الذي بدا لهم لا يكاد يختلف عن غيره من الكواكب، إن بشكله الدائري، أو بتوهجه بالليل وحلكته بالنهار، رمق أحدهم -وصادف أن كان عربيا – ضوءا متلألئا منبعثا في واضحة النهار في ناحية من مناحي الكوكب الأرضي.
استغرب الجمع لأنهم لم يلحظوا الأنوار إلا بإيعاز من صديقهم العربي، واستغربوا أيضا لأن الجزء المتوهج يكاد نوره لا ينطفئ أينما ولت الأرض ودارت..ومهما اختلف الليل والنهار.
استطرد صديقنا قائلا:
تهللت قسمات صاحبنا العربي واجتاحه شعور بالانتشاء. و بحماس شديد ،قرر رصد المكان بدقة ليتبين الإعجاز في أبهى تجلياته، فاكتشف ،كما خمنت سجيته المشرقية، أن الأنوار تنبعث من شرق الكرة الأرضية حيث منبع البركات، وموطن المعجزات.
ولأن أصدقاء صاحبنا لم يصدقوه ،فقد غاضه الأمر. لكنهم قرروا مداراته والاقتراب من البقعة المضيئة ليكتشفوا المفاجأة! لقد صدق الحدس العربي! إنه الإعجاز المشرقي! وعلى حد قول صاحبهم العربي: البركات العربية تسطع على العالم!!…تبين أصحابنا أن الكون بدا ساكنا بالنهار ناكسا أضواءه إلا موضع بقعة من ناحية شرقية، تتطاير شهبها ليلا ونهارا، وتتفجر فيها الأنوار بلا هوادة.
أخذنا الفضول والرغبة في اكتشاف السحر المشرقي، فقررنا ،أنا وصديقي، أن نحج إلى هناك لننهل من البركات التي توزع في الأرض العربية بالمجان..فوجدناها سراجا لا ينطفئ..متوهج فضاءها نورا ونيرانا، وتجتاح سماءها قنابل وصواريخ “هاون”، وشرارات بندقيات ومدافع تشعل بيداء العرب؛ حرب ضروس تدور رحاها بحماس، وشرف عربي يتناحر بين الطوائف المسلمة والدول.. شجاعة وشهامة يتغنى بها الشعراء لأمراء البقاع المقدسة..ووطن أضحى مضمار قتل مشرعن.
عقب صديقنا على المشهد قائلا :
بفضل صاحبنا العربي اكتشفنا واكتشف العلماء سر الأرض العربية المباركة، صانعة البطولات والأمجاد التي ألهمت الشعراء، وتناحرت على رحابها الأخوة والشهامة وعزة العربان..
توالت في ذاكرتي القصائد العربية التي تتغنى بالدماء كقصيدة عمر بن كلثوم التي يقول فيها:
أبا هند فلا تعجل علينا ** وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا ** ونصدرهن حمرا قد روينا
ثم حضرني نشيد عربي للأستاذ فخري البارودي حفظناه في المدارس عن ظهر قلب، يقول:
بلاد العرب أوطاني ** من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن ** إلى مصر فتطوان..
هالني الفرق بين اليوم والأمس. وتساءلت والدهشة تملؤني: كيف يقتل العربي أخاه لأتفه الأسباب ويتغنى انتشاء وطربا لأنه قتل.دون احتساب لمسمى الأخوة والدم…دون احتساب للخسائر المادية والمعنوية.. ودون ترجيح للمنطق واستقراء للمصالح العربية الحقيقية التي تتكامل باتحادها، وتصبح دولها قوية منيعة؟
استغربت لريادة الغباء في جيناتنا العربية .. واسترسلت…
لو شغل العرب العقول، التي تستوطن عبثا جماجمهم الكبيرة، لتبينوا أنهم كالبهائم يجترون “الهزائم”. والخليل الأمريكي يسحبهم، برفق، نحو الهاوية وهم مستسلمون يتلذذون لمساته الناعمة تماما كما تلذذوها انتشاء لتدمير العراق واليمن والشام …
لو أكرم العرب عقولهم كما بطونهم، وأغنوها علما وفكرا، ووظفوها – بدل الطأطأة والاستكانة- للاستنباط والبيان.. لتبينوا..أنهم يقبعون تحت صفر يتوج رؤوسهم، وأن رعاة البقر الأمريكي يملكون زمامهم، ويسحبون عقالهم تماما كما تسحب البعير.
وبتحسر شديد أردفت:
لو فعلوا.. لاكتشف أمراء البلاط وما جاورهم أن دورهم الرائد في المنطقة، بات هو طأطأة الرؤوس والطاعة العمياء، وتنفيذ بروتوكولات “صنعت في إسرائيل” لتحقيق حلم “أمريكي-إسرائيلي” في بلاد العرب؛ واكتشفوا أنهم يتسابقون للانصياع، بغباء، للعم سام وخليلته إسرائيل اللذان يغنمان وحدهما ببركات الشرق.
لو فعلوا.. لتبينوا أنه، بعد سحق مقومات الوجود العربي في المنطقة، واستنزاف خيراته بالكامل ، سيتركونه عصفا مأكولا.
ذكرني صديقي بحال العرب قبل 14 قرنا عندما قضوا 140 سنة في محاربة الأوس والخزرج، و77 سنة في محاربة بني أصفهان، و40 سنة في حرب البسوس، و40 سنة في حرب داحس والغبراء….ما مجموعه ثلاثة قرون ضيعوها في الحروب. ويبدو أنهم لا يزالون يضمون إلى رصيدهم قرونا أخرى انتشاء بالدم، وبطولات لا تتعدى خريطة العرب -هذا إن بقيت للعرب خريطة-.
قلت لصديقي…يبدو أن العرب استسلموا لفطرتهم الأولى ..ويبدو أن حليمة.. عادت لعادتها القديمة.