تميز عهد فرانكو الإسباني ،رغم نعته بالديكتاتور، بمميزات قلّ من قام بها من أمثاله على مر التاريخ، على مستوى إنجازاته البنيوية والاستراتيجية والذهنية الضخمة، فبفضله شُيِّدت أقوى أوراش البنية التحتية بإسبانيا، ومن ضمن ما يُحسب له في السياق الاجتماعي والإنساني، وقف الهجرة من البوادي الإسبانية نحو مدنها، بتركيزه على توفير كل مستلزمات الحياة الكريمة في كل قرية ومدشر وتجمُّع بشري مهْما كان صغيرا.
وبذلك توفرت البادية الإسبانية على كل المرافق الاجتماعية، مما جعل الإنسان البدوي في غنى تام عن البحث عما يلبي حاجياته، فاعتز بموطنه، واستقر فيه وخدمه وضحّى من أجله، لتصبح كل بوادي إسبانيا حواضر نموذجية يُضرب بها المثل في التمدّن والتحضّر.
على العكس من ذلك تماما في مغربنا خاصة في جزئه الشمالي، المهمّش والمهشّم، فلا المدينة يليق بها أن تُسمى مدينة، ولا البادية بادية تتمتع كما يجب بما حبتها الطبيعة من خصوصيات متميزة، وفي كل ذلك أثرُ يد الإنسان المفسدة والمسيئة واضحة.
نعلم أن الإنسان خُلق في أحسن تقويم وعلى أحسن هيئة ،ليعَمِّر الأرض وينتشر فيها وينجب أبناء وأحفادا ،وينشر الخير والفضيلة بين البشرية كلها. ولا حيلة ولا قدرة لهذا الإنسان على بناء حضارة تليق به، إلا إذا أتيحت له فرص العيش الهادئة، ومنها على وجه الخصوص استقراره على موقع جغرافي معين، يتخذه مأوى يستجمع فيه قواه، وينظم فيه شؤونه، ومنه بطبيعة الحال ينطلق إلى غيره من الأماكن بحثا عن الأفضل والأنسب والأكثر ضمانا لظروف العيش الكريم.
هل من اللآزم عليه أن يغادر مكانا ما بدعوى عدم توفره على ظروف الرفاهية واليسر والكرامة؟ ألا يمكنه أن يعمل على توفير تلك الظروف في بلده الأول بسبل مختلفة؟ أم أن الأمر يتجاوز قواه ويستعصي على التحقق؟ بطبيعة الحال لا أحد يكره أن تكون بلدته متوفرة على كل ما يلزم الإنسان في حياته، في مجالات الحياة كلها، كالتعليم، والصحة، والرياضة والترفيه ،وأوراش العمل، ومؤسسات التكوين والإبداع، وغير ذلك مما لا يمكن الاستغناء عنه في أي مجتمع إنساني يوصف بالمتمدن والمتحضر والسوي والمتوازن.
من هنا طفت إلى سطح الواقع ظاهرة الهجرة من مكان إلى آخر، وظهرت الهجرة كرغبة ذاتية ملحاحة في البحث عن الأفضل، وإن كان لها دوافع شتى، منها الهروب من الأمراض المعدية الفتاكة، والهروب من القحط والجفاف، والهروب من المجاعة، بحثا عن الأمن والغذاء ، وكذلك بحثا عن العلم والمعرفة، وبحثا عن العيش الكريم عموما.
لكن في سياق عنوان موضوعنا، ما الأفضل الاستقرار في المدينة أم في البادية؟! الجواب يبدو بديهيا شيئا ما، بحيث أنه ما دام الإنسان يبحث عن الأمن والاستقرار والتمدن، فبطبيعة الحال يود هذا الإنسان لو تتوفر له هذه الظروف الضرورية، لينهض بواسطتها بما عليه من واجبات اتجاه أخيه الإنسان واتجاه المجتمع ،وبذلك يساهم جنبا لجنب مع الأهالي المشتركين معه الإقامة في المنطقة، في تطور البادية وتنميتها ،فتصبح في صورة مدينة بما توفرت عليه من مظاهر التحديث والتمدن، فيسعد سعادة لا توصف، لأن العيش في البادية، إن توفرت الظروف المطلوبة ،متميز كثيرا عن العيش في المدينة، مهما ظهر لنا من زينة وبهرجة وضجيج وصخب في شوارع وفضاءات المدينة.
وماذا لو استقر في المدينة في حال ضعف أو انعدام البنية التحتية في البادية؟
أكيد سيعاني هذا الإنسان معاناة كثيرة، أولا إن الذي كان يبحث عنه ويطمح إليه لم يجده في المدينة، حيث وجد مظاهر تخلف مضاعف عن تخلف البادية على جميع المستويات، فلا هو بقي في باديته رغم النقص المهيمن عليها، ولا هو عثر في المدينة على ظروف عيش لائقة بالإنسان وبطموح الإنسان وبهدف الإنسان السامي النبيل، فيعيش في حالة انفصام أو تناقض، باحثا عن توازن صعب بين مدينة مثقلة بالسلبيات، وبادية متصفة بالنقص في كل شيء. وبذلك يضطر أن يتكيف مع ظروفه بما لها وما عليها باستقراره في المدينة،لكن دون أن يفرط في البادية.
في المدينة يحصل على التعليم والصحة والعمل، ولو في مستويات دنيا؛ وفي البادية ينشد راحته النفسية والروحية والوجدانية المستوحاة من الطبيعة.
مع الأسف بفعل العشوائية في التدبير، لا مدننا مدن بما تحمله الكلمة من معنى، ولا بوادينا بوادٍ بما تتصف به من مميزات، حيث تم “ترييف” مدننا بلا استثناء، وتم وأد وإهمال خصوصيات البادية، وبالتالي أصبح المغاربة أمام مسخ هوياتي ومعماري وبيئي وإنساني عام، عوص العمل على إعادة الاعتبار لكل منهما لتقوم المدينة بما هو منوط بها ولتقوم البادية بما هي أهله، بشكل يكمل بعضهما البعض. مسخٌ أضاع على الوطن طعم الحياة.