أنور مرون
تبلورت فكرة أول اتحاد أوروبي في القرن السادس عشر، ليكون تكتُّلا عسكريا من أجل مواجهة توسع الإمبراطورية العثمانية، التي أضحت تقضُّ المضاجع شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط. وكان الإسباني ” خوان لويز فيفيس”( Juan Luis Vives)، أحد علماء اللاهوت، أول من نَظَّر لذلك الاتحاد واختار له، منذ سنة 1526، إسم “اتحاد الملكيات الأوروبية”، في كتاباته التي ألح فيها على ضرورة تجاوز الصراعات بين الأوروبيين، للتركيز على الواجهة الشرقية والجنوبية للقارة الأوروبية. كانت أوروبا آنذاك تصارع العدُوّ “التركي” بسبب الاختلاف العقائدي بين المسيحيين والمسلمين؛ كانت الأفكار السائدة حينها، تتمحور حول احتقار كل مختلِفٍ عن العقيدة الكاثوليكية؛ وما زالت كتابات علماء اللاهوت، على سبيل المثال، شاهدة على تلك الكراهية العميقة تجاه المسلمين وحتى اليهود الذين طالب أكثر من رجل دين، رفيع الرتبة، بضرورة إبادتهم إبادة شاملة.
وبسبب كراهية الأوروبيين لكل من يختلف معهم، جذورا في القرن السادس الميلادي، عندما دخلت أوروبا في صراع مع البيزنطيين رغم أنهم مسيحيين، لكن كانوا منتمين للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية ؛ ولأن الإمبراطورية الرومانية أنتجت الكاثوليكية وجعلتها الدين الرسمي للدولة، كان لزاما أن تتوحّد أوروبا المسماة “بالغرب” (تسمية أوروبا كانت قليلة التداول آنذاك). وحدةٌ ما كان يمكن أن تتحقق إلا تحت لواء ديني مكّن الرومان من موقعة كل القارة شمال البحر الأبيض المتوسط، في كراهية دائمة لكل ما هو شرقي.
وفي نفس سياق الكراهية بسبب الاختلاف العقائدي، قام الأوروبيون بشن الحروب الصليبية، من أواخر القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر، بهدف تطهير الأراضي المقدسة في الشرق، والطرق التي تؤدي إليها من “النجاسة”. واعتبر الأوروبيون أن إبادة كل شعب وجدوه على طريقهم إلى أوروشليم، ضروري، فقط لأنه يختلف عنهم، ولا حق له في الحياة رغم أنه لا يُهَدِّدُهم.
منطق الصراع هذا ،وما يلازمه من احتقار لعدو مفترض، ظل يلازم كل مبادرة للتكتل في القارة العجوز؛ وقد سيطر ذلك المنطق العدائي على علاقات الكثير من الدول الأوروبية مع الدول المجاورة من القارات الأخرى لمدة قرون عديدة، إلا أن توحيد عدوانية أوروبا تحت لواء ديني، ستعرف منحى آخر مع وصول الديكتاتور الألماني هتلر، ديموقراطيا، إلى سدة الحكم سنة 1933. لقد كان ل”الفوهرر” النازي مشروعا ضخما لتوحيد أوروبا على جميع المستويات، السياسية، الاقتصادية والعسكرية، في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، لكنه وضع شروطا صارمة من أجل وضع الأمور في نصابها، كما ثبت في خطبه وحواراته مع حليفه الزعيم الفاشي، موسوليني. كان هتلر يسَوِّق دائما لفكرة هامة بالنسبة له، وهي أنه من اللازم على الشعوب الأوروبية الاعتراف بتفوق الجنس الآري طبيعيا، من أجل أن يكون الأوروبيون موحدين وأقوياء بمقدورهم محاربة الأجناس الدُّونية خارج قارتهم، حتى يتم وضع تلك الأجناس في مرتبتها الطبيعية، ألا وهي مرتبة ما تحت الإنسان ، حسب المنظور العنصري النازي. وكان هتلر يرى في تلك “الأجناس الدونية” وحوشا يجب إبعادها، وحماية الحدود الأوروبية منها؛ كما يجب عدم الاختلاط معها لكي يبقى الجنس الآري نقيا وصافيا.
اليوم، وبعد مرور عشرات السنين، نستطيع أن نجزم أن البشرية لم تعرف نظاما أكثر عنصرية من النظام النازي؛ كما نلاحظ أن الأوروبيين يريدون أن يمحوا تلك الصفحات السوداء من تاريخهم الدموي.
لكن من جهة أخرى، نجد أن الأعضاء المؤسسين للاتحاد الأوروبي عندما اختاروا راية زرقاء مرصعة نجوما، عددها مثل عدد تلاميذ المسيح الإثنى عشر، يعبرون عن الهوية المسيحية لأوروبا الغربية. أما إصرارهم، إلى حدود اليوم، على إبراز تلك الهوية المسيحية، فَيُعتبر إصراراً على الافتخار بتاريخ الكراهية والعنصرية المتجذرين لديهم… أي أنهم يفتخرون بكل الجرائم التي تورطت فيها الكنيسة الكاثوليكية، بما فيها مباركة كنيسة روما لجرائم النازية…
عندما يلاحظ العالم اليوم، كيف تقوم دول أوروبية بالتدخل في شؤون القارة الأفريقية لتستغل خيراتها استغلالا بشعا، معرضة شعوبها للمجاعة والفقر المذقع، دافعة إياها نحو التشرد والهجرة، نطرح أكثر من علامة استفهام…
عندما نلاحظ كيف يعامل الإتحاد الأوروبي المهاجرين، باحتقار، على حدوده، وكأنهم أكوامُ كائنات بلا هوية، سالبا إياهم آدميتهم، نطرح أكثر من علامة استفهام…
أليس في ذلك التعامل الذي يحط من الإنسان ،ويجعله تحت مرتبة الإنسان، نَسْفٌ مُعلَنٌ للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي نجد في مادته الأولى أن جميع الناس أحرار ومتساوون في الكرامة والحقوق (…) كما يجب عليهم أن يعامَلوا بعضهم بعضا بروح الإخاء؟!
أليس تمادي حراس الحدود الأوروبيين في إهانة الأفارقة، على سبيل المثال لا الحصر، بطريقة ممنهجة ومؤسساتية، لَدليل واضح على أن مشروع هتلر، المتمثل في قارة أوروبية موحدة ومنضوية تحت لواء النازية، قد حقّقه الاتحاد الأوروبي على أرض الواقع ،لكن كان الاضطرار لاستعمال “ماكياج” الحضارة الحديثة، لإخفاء وجه أوروبا العنصري والبشع؟؟؟