بقلم: نورالدين بوكروح (+)
“سبق أن صرّحتُ أن “نسبة المشاركة لا تهمني، ما يهمني هو أن من سيفرزهم الصندوق لهم الشرعية الشعبية التي تمكِّنهم غدا من ممارسة السلطة التشريعية”. (عبد المجيد تبون).
تمكّن عبد المجيد تبون من الإفلات من السجن بفضل اللواء قايد صالح، قائد الأركان آنذاك الذي جعل منه رئيسا للجمهورية، لكي يضمن معاً التحكم في زمام الأمور بالجزائر. هكذا كان يظن. لكنه توفي يومين فقط بعد أن أدّى تبون اليمين الدستورية ليصبح رئيسا للجمهورية الذي كان ابنه قابعا في السجن منذ عدة أشهر.
في نفس الوقت كان لواء آخر ورئيس المخابرات وقت الانتخابات الرئاسية قد وقع اختياره على مرشح آخر والذي كان يردد اسمه سويعات قبل النطق بنتائج الاقتراع على أنه الفائز. لكن لم يفز. وبعد أسابيع حكمت المحكمة العسكرية على ذلك الجنرال بالخيانة وجردته من كل رتبه العسكرية، وحوّلَتْه إلى جندي بسيط. أما فرسه، انسان يدعى ميهوبي، فقد اختفى من المشهد السياسي وينتظر دوره للمثول أمام القضاء حيث اتُّهم هو الآخر بالفساد.
هذا ما يمكننا قراءته على الصفحة الأولى من تاريخ “الجزائر الجديدة”. لم نسمع في تاريخ الأمم عن القرب الشديد بين باب السجن وباب الحُكم مثلما نراه في أيامنا هذه.
قبل أن يدور العام على توليه السلطة، ضرب كوفيد – 19 تبون ووضعه أمام الموت، لكن الطب الألماني استطاع أن يخلِّصه،ويعيد له عافيته. وحدث ما لم يتوقعه أحد ورمى به فيما هو أسوأ من السجن والموت.إنه الجنون، حيث لأنه من الأفضل أن تفقد الحرية والحياة بدل فقدان قوة العقل، مما يحُول دون التمتع بهما.
إنها الفترة التي ظهرت فيها أولى أعراض الجنون لدى السيد تبون الذي بدأ يرى في “الحراك” موكبا شعبيا بعثه الله لكي يجعل منه أغليد (ملك) في بلاد تامزغا، وكان يتوقع منه هذا الموكب أن يعود إلى دوره القديم كما يراه، أي جماهير لا حول ولا قوة لها، وخاضعة لرغبات أصحاب السلطة. لكن، ويا للدهشة، لم ترض الجماهير التوقف عن السير والعودة إلى الخنوع.
فتحوّل الحراك “المبارك” الذي أوصله، عرضا وليس رغبة، إلى سدة الحكم، إلى حراك “لعين” لأنه يريد أن ينزع الحكم منه.
عندما يتعلق الأمر “بأيتها الناس”، يكون الجنون مصيبة كبيرة. فكيف حين يتعلق الأمر برئيس أكبر دولة في أفريقيا؟ أكيد أن الأمر يأخذ منحى آخر وأبعادا كثيرة، أولها أنه خطر على الوطن، وآخرها سبب زعزعة دولية. إن الأمر بالفعل لا يتعلق بمصير رجل واحد، لكن بمصير أمة وجيرانها.
لا أتوقف عند تصريح تبون وهو يتحدث، بغرور ،عن الجزائر التي تملك “أفضل منظومة صحية في أفريقيا” قبل أن يهرول إلى مستشفى ألماني للعلاج؛ كما لن أتوقف عند حديثه عن ركود أكبر اقتصادات العالم بنسبة 80 بالمائة، مع أنها كانت التصريحات التي بدأت تثير الشبهة حول صحته العقلية. لكن الشك تبدل باليقين عندما سمع العالم أجمع تصريحاته المذكورة أعلاه جراء تشريعيات 12 يونيو 2021.
منحَنا الرجل الدليل القطعي على الخلل الذهني الذي أُصيب به، وأنه لا يدرك ما يقوله رغم الثقة بالنفس الظاهرة عليه. لقد وصل به الأمر إلى الخلط بين الأقلية والأغلبية والتصريح أمام الملأ أنه يمكن أن تكون ”منتخَباً” بدون انتخاب؛ وأن عدد المنتحبين لا علاقة له ب “الشرعية”. والأغرب أنه يستقي ثقته بأنه في الطريق الصحيح ،وأن غالبية الشعب تذهب في الاتجاه المعاكس.
يبدو أن الأمور اختلطت عليه إلى درجة أنه لم يعد يفرق بين قوانين الطبيعة ورغباته، ولا يدرك قوانين الحساب الأساسية، ولا أهمية الأرقام، ويتحدى العقل ،ويدهس الأخلاق السياسية.
هل يعقل أن نتحدث عن “شرعية شعبية” عندما يقبل 30 بالمائة ما يرفضه 70 بالمائة من الشعب؟ إن 70 بالمائة هي النسبة التي تمنح الشرعية وليس العكس. وإلا فالعالم سيكون يمشي على رأسه وليس على رجليه. لكن السيد تبون لا يعنيه هذا الأمر ولا يكترث له، لأنه صادق فيما يراه . ومن هنا نرى علامات الصدق ترتسم على وجهه عندما يتفوّه بهذه الأقوال غير الصائبة.
تبون أخفى في طيّات لا شعوره ذكرى انتخابه من قبل قلَّة قليلة من الشعب، وذكرى دستور “الجزائر الجديدة” التي رفضها أربعة أخماس الكتلة الناخبة، والآن ينفي أن المؤسسة التشريعية، التي يريد فرضها، مهْما كان الثمن، لم تحصل سوى على 30 بالمائة… على أكثر تقدير، حيث سيظهر في الأيام القادمة أن 30 هو في الحقيقة 15. وفي انتظار ذلك، فإنه يرفض أن ينظر إلى 70 بالمائة التي تمثّل الكأس المملوءة.
لكن هذا كله ليس مهِمّاً بما ان “تبون” ماضٍ في طريقة، ولا يُعير أي اهتمام للأرقام، والرفض المتزايد لكل مبادراته. فلا جدوى من محاولة إعادته إلى الصواب، أو انتقاد قراراته، أو حتى مجادلته يتهمة الديكتارتورية. لم يعد يعرف للكلمات معنى، ومنها كلمة الحوار. فهو بعيد عن هذا كله الآن ؛ يريد أن يظل يسبح وحده في عالم منقلب على رأسه، وليس فيه جاذبية تعيد إليه الوقوف على أرض الواقع.
وبالنظر للمنصب الذي يشغله، يمكنه أن يصبح نيرون (NERON حاكم روماني كانت تصدر منه تصرفات جعلت الناس تقول عنه أنه مجنون وجعل نفسه امبراطورا). ماذا بقي لنا ان نخشاه من السيد تبون بعد أن قبل فكرة غياب منطقة القبائل من التمثيلية الوطنية؟ لو كان هذا الفعل الوحيد الذي صدر منه، فإنه كاف لوضعه في مستشفى الأمراض العقلية. أما الآن فهو يوقِّع على الأوامر، الواحدة تلو الأخرى، لتجريم معارضة هذيانه، واعتبار كل انتقاد عملية إرهابية، والعدالة لم تعد وسيلة حُكم باسم الشعب، بل باسم الأقلية التي تناهض إرادة غالبية الشعب.
قبل أسبوع، قال لصحافي قناة “الجزيرة” أن الجزائر كانت ستتدخل في ليبيا لو دخلت قوات حفتر طرابلس. أنا لا أؤمن بهذا الكلام. لكن، ربما كان يرى نفسة مثل الماريشال رومل (Rommel) وهو يقابل الحدّاد (maréchal-ferrant) حفتر، ونسي أن العديد من الجيوش توجد هناك منذ زمن طويل ( الروس، العثمانيون، الإماراتيون، القطرييون، المصريون، الاوربيون…)، دون الحديث عن الميلشيات المحلية والمرتزقة القادمة من كل حدب وصوب. أو ربما رأى نفسه يشعل حربا عالمية يكون له فيها دورا بطوليا.
إذا تأكد الأمر،فإن تسرُّعه في تنصيب المؤسسة التشريعية الجديدة هو لالتزام بعقد سري اتخذه (يتمثّل في إرسال الجيش الشعبي الوطني لتعويض قوات “برخان” Barkhane أو تعزيزها) حبث أنه يحتاج إلى تصويت ثلثي البرلمان، فهذا يعني أن 70 بالمائة من الشعب،الرافضة للانتخابات، والتي يعتبرها تبون أقلية، لن يبقى أمامهم سوى الذهاب إلى الجحيم وإنشاء حزائر أخرى في مكان آخر. أليس من المنطقي أن يذهب هو؟ وحتى من ناحية التكلفة، فإن هذا الحل أقل تكلفة للجزائر.
إن تبون يضع الجزائر، في خطر كبير جدا، بتصريحاته غير المسؤولة وغير المعقولة والحمقاء، والتي لم يُدْلِ بها أي مسؤول جزائري في هذا المستوى، ويتلاعب بمستقبل أبنائها.
البلدان لا تموت كما يموت الإنسان، فهي لا تلفظ أنفاسها الأخيرة في لحظة وتتوارى أجسادها عن الأنظار بمجرد دفنها. إنها تموت في صخب عارم، صخب الحرب، أو تعيش تدهورا بطيئا يشعر به سكانها من خلال تقهقر اقتصادها، وانقسامهم إلى شيع مُسانِدة أو مناهِضة للنظام، وانطفاء شعلة الأمل في صدور أبنائه في غد أفضل وحياة عصرية.
بعد كل هذا، ما العمل من أجل أن يعود رئيس، متربع على عرش السلطة، إلى صوابه الذي فقده؟ ماذا بقي للشعب الجزائري لكي “يُلَيِّن قرارات” حكّام لم ينجح في “تغييرهم” بطرق سلمية؟ هل يسمع لمقولة ماكرون، علما أن هذا الأخير هو السند الدولي المعروف لتبون الذي جنَّ؟
(+)بوكروح… كاتب المقال كان وزيرا سابقا للتجارة في عهد الرئيس المخلوع بوتفليقة ؛مع “تبون”…