نـور24

مخاض اجتياز امتحان البكالوريا.. تجربة فريدة لامراة خمسينية

زهور بوشابة

 

لم أفكر يوما في اجتياز امتحان البكالوريا. جاءت الفكرة عن طريق صديقة، أُكنّ لها كل الاحترام والتقدير؛، خضت التجربة في سن يناهز الخامسة والخمسين؛ لم يكن العمر عائقا أمام مشروعي، لأنه مجرد رقم يحمل في طيّاته مسيرة حياتي، عشتها بسلبياتها وإيجابياتها، لينتهي بي الأمر في التسجيل داخل مركز متخصص في دعم الأحرار، وتزويدهم بالمواد الأدبية، فكان حضوري نسبي، نظرا لظروف العمل، لكنني تلقيت المنهجية بشكل جيد، وكانت إجبارية في صياغة المواضيع، منها الفلسفة ، العربية ومادة الاجتماعية، فشكلت محطة اهتمام الجميع، وأصبحت الحديث اليومي عند التلاميذ الأحرار، يتحدثون عنها أكثر من حديثهم عن المواد وأهميتها، فالهدف واضح أمام الكل، ومختزل في نيل شهادة الباكالوريا لأغراض تختلف من شخص لآخر.

 

صورة أرشيفية

كانت البداية في شهر أكتوبر، تميزت بشغف كبير للبرنامج، وعطشي العميق للمعرفة والتثقيف، رغم أنني عاشقة للكتاب إلى درجة الإدمان ،وهذا منذ زمن بعيد؛ تعددت قراءاتي من روايات وأبحاث في مختلف المجالات. كنت أصنف نفسي بالقارئة الهمجية، فعلاقتي بالكتب علاقة لا مشروطة، ولا حدود زمنية ولا مكانية، تولّدت عنها رفض الانتقائية، والبحث الدائم عن الكلمة الموزونة، وجمالية التعبير في جغرافية عالمية محددها اللغة تارة عربية وأخرى أجنبية؛ أسعى وراء البصمة المعرفية وتثقيف الذات، إلا أن هذه البصمة تتعرض في بعض الأحيان إلى الإتْلاف وتحل محلها أخرى تساهم في تخصيب الفكر كنتاج للعقل. هذا المعطى الفطري، مهمته تحديد الوجود عبر “الكوجيطو” الديكارتي، الخاضع لعمليات ذهنية من تركيب وترتيب للإثبات والتأكيد، وهذا ما أجزمته المدرسة العقلانية من خلال مؤسسها صاحب القولة الأبدية، “أنا أشك، أنا أفكر ،إذن أنا موجود” .

لكنني توصلت، بعد ذلك، إلى أن الشك المنهجي جزء من الكل في التركيبة الآدمية، ولا تكتمل إلا بوجود الإحساس والشعور، وترابط الذكريات مع شدة الإرادة، وهذا ما عبّرت عنه المدرسة التجريبية و تجاوزته المدرسة الإنسانية من وجهة نظر نفسيه كمحدد لهوية الشخص، يؤكدها العالم النفسي ” سيغموند فرويد” في الجهاز النفسي، المرتبط بالأسياد الأشداء: الأنا العليا واللهو والأنا ،كلها عناصر تتفاعل فيما بينها داخل الفضاء اللاشعوري أو العقل الباطني على أثر هذه المدارس الثلاثة. عشقت الفلسفة عشقا جنونيا، رغم صعوبتي في البداية لفهمها، والسبر في أغوارها، والوقوف على عتبتها، المكوّنة من التوافق والتقابل، تأثرتُ بهاتين الآليتين، واستوعبت أهميتها في الاستمرارية الوجودية نحو النجاح أو الفشل، يعبران عن الوجود الفعلي، وعن الدينامية والحياة في مقابل الموت أو الجمود، خاصية تحيل إلى العدم وإعلان انتهاء صلاحية شخص ما، تستحضره كغير في وعينا .هذا الأخير أثّر في مسار حياتي، كان صديقا، أم زوجا أو مدرّسا، لا أستطيع انكسار وجوده، استجابة لطبيعتي الاجتماعية، وشرطا لإثبات ذاتي، ولا أختزله في احتمالية الوجود الديكارتية كما لا أُشَيِّئه على غرار سارتر، فوجوده من وجودي، فأنا ذات فاعلة، ومفعول بي في بعض الأحيان، وهذا لا يبطل قيمتي ولا يجعلني وسيلة لتحقيق غايات الآخرين، فأصرخ، وبأعلى صوتي، باحثة عن “كانط”، لأقول له قيمتي في أخلاقي وفي عقلي النظري، أتنفس حرية “سارتر”، حاملة مشروعي بداخلي وسوف أحسن اختياريتي وفق مؤهلاتي، لأخطو إلى الأمام، دون الالتفاتة إلى الوراء، سوف أدخل التاريخ، وأستمر في بحثي لا من أجل الجزم على موضوعيته وعلميته، لأنني آمنت باقتحام الذات العارفة في سرد أحداث الماضويين فاقدة لتلقائية كصفة تحيى وتموت مع اللحظة كزمان للحدث؛ فالتاريخ صناعة بشرية، تحكي عن تطورات وتراجعات الحقب وفق الفجائية والعرضية، تجعل الإنسان في محنة السؤال أمام تغيير مجرى الحياة، ثارة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، بل غيرت الثابت ليصبح متحركا، وخلخلت المنظومة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

أفرزت مجتمعات استمدت قوّتها من أخرى ضعيفة، وهذا ما عبّر عنه تاريخ الأمة العربية في مرحلة الانحطاط، وأرضه خصبة للاستغلال، سلم لبناء حضارة الغير، فعاشت صدمة الأزمات والنكبات، فتعرضت للاحتضار والجمود الفكري، منبهرة بتقدم الغرب، في ظلام حالك، وملتزمة الصمت إلى حين ظهور المدرسة الإحيائية؛ شقت طريق القدماء، فحاكتهم في تجربتهم بكل إخلاص وأمانة، من خلال شعرائها، لعل أبرزهم محمود سامي البارودي، صاحب الكلمة الصعبة والدلالة القوية، وتأتي المدرسة الرومانسية بحمولتها الثقافية، المرتبطة بذات الشاعر على إحساس وشعور، ليدخل المفكر العقّاد ويؤكد على ازدواجية الشعور والفكر في نسج القصيدة العربية، ويختلف معه عبد الرحمان شكوري، والمازني: الأول يرى القصيدة في التأمل، والثاني يجزم أن الشعر كل ما تفيض به النفس من شعور وإحساس. وبعد تجربة سؤال الذات، برز الشعر الحر، وخاض معركة البحث واستئصال الهوية، فتساءلت نازك الملائكة عن الكلمة المفقودة في الصمت، وارتبط أدونيس بالتحوّل، وتطرّق البياتي إلى جدلية اليأس الأمل، فالخلاص لا يأتي إلا بالمواجهة الفكرية التي تستوجب القضاء على العقم الفكري بالانفتاح، والالتزام بالكونية، في بعدها الإنساني والأخلاقي وكذلك الفكري.
لم تتوقف مسيرتي عند هذا الحد، بل أصابتني أزمة عاطفية مع كتاب ” ظاهرة الشعر الحديث”؛ قرأته لعدة مرات ولكل مرة نكهتها الخاصة، خففت عني متاعب تحضير الامتحان، واكتشفت القوة الإبداعية للمؤلف. إنها رحلة بين السطور، جعلت من صاحبه أيقونة النقد، فالشاعر المعداوي تركني أعيش اليوم الثامن، من الأسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر، منحني الإحساس بالنجاح قبل الإعلان عن النتائج. إنها تجربة يعيشها الشباب في العمر السابع العشر، لنيل شهادة الباكالوريا والوقوف عند عتبة المستقبل؛ وشكلت لي شخصيا انطلاقة فيها نوع من التحدي لذاتي، وأوكسجين لحياتي أسعى من ورائه خلق الجديد وإغناء زادي المعرفي الذي هو في ضماء مستمر يسعى وراء التثقيف، مِيزته الانتقائية، لن ينفك إلا بحضور العمق المعرفي، ولا يعترف بالحدود الزمنية أو المكانية، ومتشبث بكونيتها، غير مبال بعرقيته أو جنسيته، فأتوجه إليك أيها المتلقي وأستحضرك لأقاسمك تجربتي. لا أدري ربما تعتز بها، أو تنبذها أو ربما تُلقي بها في سلة المهملات، لكن لا يمكنك أن ترفع عنها صفة الوجودية كتجربة لمرآة خمسينية .

Exit mobile version