هناء مهدي 2022-11-17
بين القوي المفترس والسليب الذي يسيطر عليه ظله، .. تتأرجح الأنا وتتخبط في صراع مستديم مع الموضوع الخارجي المستدمج حد التماهي، بين سياط الحب والكره؛ بين القوة والهوان.. بين الأنا القاسي المتملك للسلطة العليا، والانا الصغير المتغير بفعل التماهي مع الانا المستدمج… بين فقدان الموضوع في الوهم اللاواعي، والتملك الكامل له في الواقع الداخلي….يفسر فرويد سلسلة المتناقضات النفسية للاكتئاب النفسي والحداد في كتابه “الحداد والميلانخولية”، حيث الأنا تعيش صراعا وقلقا نفسيا شبيها بحالات القلق الأولى عند الولادة وقلق الانفصال عن الأم الحامية..
هذه الأنا الضعيفة المضطهَدة.. تواجه افتراسا وحشيا من الأنا العليا المضطهِدة، تماما كعلاقة الطفل الافتراسية بثدي أمه في المرحلة الفموية. التي تترجم أصل الامتلاك النفسي النرجسي للموضوع؛ فالنفس ، حسب سيغموند فرويد، “تتشبت بحب الموضوع ولاتستطيع التخلي عنه رغم التخلي عن الموضوع نفسه”.
يميز فرويد بين الفقد للموضوع في الميلانخولية والفقد له في الحداد.. فعمل الحداد، بحسبه، ضروري وصحي بسبب الخسارة التي مني بها الشخص، والتي تبرر حالة الحزن التي يعيشها جراء آلام الفقد (شخص، وطن،حرية..)، ويفسر فرويد ميكانيزمات الصراع النفسي التي يعيشها الشخص في الحداد.. بعملية الانسلاخ والفصل النهائي مع الموضوع التي تأتي تدريجيا وبعد ألم شديد ومعاناة.. لينتهي بتقبل غياب الموضوع النهائي ، فيوجه الطاقة الليبيدية لموضوع جديد.
يفترض فرويد أن الميلانخوليا هي حداد انحرف عن مساره الطبيعي، فتحوٌل لحداد مرضي. فالأنا في الميلانخوليا تعيش نفس المعاناة: شعور شديد بالحزن والأسى والألم.. بسبب فقد ارتبط بموضوع “مجهول”، سقط من حضرة الشعور واستوطن في غياهب اللاشعور، فلا سبيل له إذن للانسلاخ والتحرر، أو لتوجيه الطاقة الليبيدية لموضوع خارجي آخر.
ستنسحب الطاقة الليبيدية داخل الأنا، فيقوم هذا الأخير بتقمص الموضوع المفقود، فيسقط ظله على الأنا، ويعاملها على انها الموضوع المفقود ذاته.
هذه الحالة من التشبت بالموضوع والخوف من فقدانه، تجعل المكتئب يسعى للتماهي النرجسي معه، فيبدأ مسلسل الصراع بين عاطفتين متناقضتين، هما : الحب والكراهية، والغضب والأسى ، واليأس والقتل.. فالعلاقة بين المكتئب وموضوعه تتسم بنوع من النرجسيّة السادية، وهذا يعني أنه لا يحب الموضوع لذاته ، بل لحاجته النفسية الليبيدية إليه.
بعد هذا الانسحاب داخل الأنا ورفض اللاوعي التخلي عن الموضوع المفقود. ستتعرض الانا لقسوة الأنا الأعلى السادية التي ستقوم بتقزيمها والسعي نحو اغتيالها.. هنا نفهم حالة الاضطراب التي يعيشها المكتئب.. وتلك الافكار السوداوية وسلسلة الاتهامات التي يهاجم بها نفسه، ويستصغرها ويمعن في تحقيرها وجلدها.. فلاتطيب له الحياة جملة وتفصيلا.. ولايستلذ الأكل ولا ينشد النوم.. ويتربص به الأرق. يظل سجينا لحزنه الشديد ، وللوم النفس وتأنيب الضمير، يترجم توقه للحب والرحمة بكرهه لذاته وزعمه أنه لايستحق تقديرا ولا محبة او رحمة، يعيش حالة يأس وقنوط شديد فيعزف عن الحياة وينشد الموت.
تنعكس هذه الأعراض النفسية على جسد المكتئب ليصبح فاشلا، يتربص به العياء الشديد ويمنعه عن كل الاعمال والأنشطة التي كان يزاولها، فيهمل ذاته وينقطع عن العالم ويعتصم بغرفته .
ان مايميز الحداد عن الاكتئاب هو المدة الزمنية المحدودة للحداد التي تنتهي بعد تحويل الطاقة الليبيدية لموضوع جديد، وأيضا عدم تعنيف الذات واحتقارها او عدم تانيب الضمير والتعذيب النفسي الذي ينزع اليه الانا الأعلى المستبد في الميلانخولية.” في حالة الحداد؛ فالعالم هو من أصبح بائسا وفارغا، في الميلانخولية ينطبق ذلك على الأنا”.
إن التحول الاكثر إثارة في الاكتئاب، او الطفرة التي تقلب الموازين رأسا على عقب ، هي انقلاب الميلانخولية الى هوس، حيث يرتد الموضوع عن الأنا وتنعتق النفس من قيد الكآبة إلى مطلق التحرر النفسي والجسدي، فتنعكس الأعراض الى أضدادها.. لتنعتق النفس من الحزن وتنشد منتهى السعادة، فيتحول الكسل والخمول الى نشاط مبالغ، اجتهاد شديد لا حدود له.فيقوم المهووس باعمال كثيرة ليل نهار بلاتوقف؛ ويستعيد رغباته الليبيدية العنيفة ليصبح الشخص المثير الذي يتوه بين رغباته وملذاته.. يستعيد الانا الصغير قوته فيتحول إلى الخارق الذي لايغلبه شيء.
إن الهوس ، حسب فرويد، هو نوع من “الانتصار الذي حققته الانا” التي تجاوزت الموضوع وفازت بجولة الصراع.. “الانا تجاوز فقد الموضوع” و الهوس هو التحرر من الموضوع المستبد الذي جعله يعاني.. هذه الدفعة الجامحة والانطلاقة نحو الملذات.. كجائع ملهوف ينشد استثمارات ليبيدية جديدة _مهما تعارضت مع القيم المجتمعية_ تجعله محل صراع وتوثر شديد مع الواقع.