سعداني الشيخ ماء العينين
عرف الشعر العربي حركية الإبداع أهَّلته الى محاكاة كل عصر، آخذاً مشعل الرقي الأدبي من جيل إلى آخر؛ حركية أثمرت أنماطا عديدة، بداية من الموروث القديم للقصيدة، بما تفرضه من مقدمة وتنَوُّع الأغراض، مع الحفاظ على البناء الشكلي من توحيد القافية، ثم وحدة الموضوع مع الحفاظ على القصيدة العمودية ،وُصولا الى الشعر الحر الثائر على القيود الشكلية ،ناقلا كسْر قيود الواقع وإسقاطه على القصيدة، معبرا عن جيل التحرر و مواجهة الذل والاضطهاد .فالأدب العربي،خاصة الشعر يعتبر ناطقا بلسان حال الأمة، موَثِّقاً الأحداث حزينة كانت أم مُحَمَّلة بالبهجة والحبور ،وهذا الخطاب أكدته القصيدة “كيف نجوت” قصد الدرس ، للشاعر المبدع زاهي وهبي .
سأحاول محاورة مضامين القصيدة والغوص في دُرر الأسلوب المنفرد له، والاقتراب من تمثيله الراقي لهذا الخطاب الشعري الحديث ،شعر التفعيلة أو الشعر الحر .هذا الاتجاه الأدبي الذي يعتبر من أعلامه ورواده ،نازك الملائكة مرورا بمحمود درويش ،فدوى طوقان.. واللائحة تطُول .فكيف جسّد الشاعر زاهي وهبي هذا الإبداع ؟ هل أضاف له بُعدا إنسانيا ببصمة تجديد يخاطب كوْنِيَةَ القيم، وتحمل مشعل السلام والحب ثائرا كاسراً قيود الذل والاضطهاد ؟؟؟؟
“كيف نجوت” ؟ عنوان القصيدة قد يُحيل الى تساؤل يتردد صداه عبر السنين عندما يستحضر الشاعر الأحداث بتفاصيلها الدقيقة ،يداعب المعاني ويُسامر الحزن في أنشودة التحدي لمن تسبّب في الخراب والقتل، حين قال لا أعرف كيف نجوت، لم أمت، ولكن رأيت من مات.. هنا توثيقٌ لحقبة دامية، أَثَّرت في جيل بأكمله صورة الموت العالقة في الأذهان من حروب .لحظة مؤلمة كتبها الشاعر بأسلوب تقريري لا يريد أن تمر دون تدوينها مع ذكر التفاصيل، ووَصْف حالة القتلى، وقمة وحشية الحدث الذي لم تسْلم منه براءة الطفولة وسط الركام والخراب .
في خضم هذا الصراع المؤلم، يبدأ الشاعر رحلته مع الأمل، ليجلب لنا الورد في الطرقات بانبعاث الحياة من ركام الواقع المرير، ليختزل بمالَه من موروث ثقافي وديني استحضار وصْف لتيمة الموت ألا وهو “كل نفس ذائقة الموت”، مقتبسا هذه الآية أن النفس لها نصيبها من الإحساس بالحب كذلك؛ حين قال كل نفس ذائقة الحب كأجمل صورة شعرية تمايلت معها القصيدة،تُلامِس العاطفة الإنسانية، تحاكي المشاعر وتفك قيد الإحساس؛حين ترسم غدا مشرقا بالأمل والحب والسلام، فبين تيمة الموت والحب تتدرّج الألفاظ والأساليب، وتنسج من حقيقة الحزن ومواجهة حتمية الفناء بمعاني التحدي والاستمرار ،فمثلا حين قال الشاعر: “من الركام طلعت.. طلعت من الركام قارئا سطور الغبار” تكرار كلمة “ركام” وكلمة “طلعت”، تأكيد على قمة التحدي ،قارئا سطور الغبار حين جعل من الغيار لغة أجاد قراءتها ،وأبهر القارئ بهذه الصورة الشعرية متممة لجمال المعنى ،بل كما قال منشدا الراحلين على هودج الغياب ،حين يبدأ رحلة مع الأمل معلنا انتصار الحب على الموت بمشاعر جياشة مقبلة على الحياة .
هذه النبرة من سمات الشعر الحر الكاسر لكل القيود حتى الموت، كأقسى تحدِّي، انتصار للحياة والبقاء رغم جبروت الواقع المؤلم؛ هذه المضامين السامية تُميِّز شعر زاهي وهبي حين يقف أمام الحقيقة، ومن عمق الألم يفتح شرفة للأمل، كلما زادت حدة الظر وف أنار شمعة التفاؤل، معتمدا في أسلوبه على ألسنة الطبيعة ملاذا للصفاء المنشود، حمولة الارتقاء بأحلام تُثمر وتُزهر، وإحالة طُهر الطبيعة على النفس البشرية ،فالقصيدة من السهل الممتنع.
لذلك اقتبست بعض الصور الشعرية من المضمون، لأنها من جمال الإبداع لمعاني تحاكي قريحة كل قارئ؛ ففي كل شطر تمام المعنى قد يكتمل بالشطر الموالي له، وقد تجد أنه استوفى خلفية الشاعر بأسلوب سلس خالي من الغموض، فالقصيدة كأنها شارحة لنفسها بأسلوب يتماشى مع المضمون مرهف الإحساس، مضمون يمثِّل الشعر الحر أو القصيدة النثرية.
إن التصنيف هنا يجد تميُّزه في عمق المعاني، بِبُعدها الأدبي بأغراض ومواضيع فيها لمحة التجديد ،وخلق خلخلة محمودة في بناء القصيدة ،كأن الشاعر ببصمته الخاصة رسم منهجا أو اتجاها للشعر العربي، حين ساهم في خلق حركيّة متجانسة مع عصره، وأسقط الجمود والرتابة، وأَبْعد عن منهجه أساليب الصنعة والتكلف؛ تجديدٌ يحسب له مقنع فأظهر جانب مرونة اللغة العربية لمحاكاة كل زمان بمالَه وما عليه؛ وأن الشاعر يوثق ويؤرخ ناطقا بلسان حال عصره ،دون إغفال جانب الذوق ورفع الذائقة للقارئ العربي والارتقاء به بعيدا عن حالة الإسفاف.
نعم، الشاعر زاهي وهبي ركّز على تجديد مضامين الشعر خاصة، بالتركيز على البعد الإنساني، أي تيمة الإنسان بكل تجرُّد فلاَمَس كُنْه الإحساس،مُبَيِّناً بَوْصَلةالسلام كمَعْبر للحب والأمان رغم قساوة الحروب وما يترّتب عنها من خراب وقتل انتصارا للحياة.
حقيقة القصيدة أكبر من أن تختزلها قراءتي البسيطة ،ولكن من مميزات الشعر الحر تعدُّد القراءات. من هذه الزاوية أستمدُ مشروعية التحليل وأتمنى أن أُوَفَّقَ في محاورة ولو النزر القليل من جمالية إبداع الشاعر الملهم زاهي وهبي. إن قصيدة “كيف نجوت”، بجمالية معانيها وصورها الشعرية، تستوقف أيّ قارئ لها؛ حين تقرأ عن تيمة الموت ليس من موقع ضعف واستكانة ،ولكن للرفض ورفْع مشعل الأمل والحب . هذا الجمال في انسياب المعاني يُعتبر خاصية لشعر الشاعر المقتدر زاهي وهبي في إبداعه بشكل عام؛ واختار أن يسلك طريقا يُضاعف جمالية الإبداع العربي شعرا يُشبهه بامتياز، مع المساهمة في صيرورة الإبداع الشعري وتشجيع الناشئة والمهتمين، لكي لا تُمحي العولمة والحداثة هذا الموروث الغني بالمعاني السامية.