نحو ميثاق أخلاقي في أفق المواطنة.. رؤية سوسيوأنثروبولوجية
د. نبيل بلعطار *
تعتبر المنظومة الأخلاقية ذات أهمية قصوى في تكريس وظيفةورقي القيم على المستوى الاجتماعي والإنساني والاقتصادي والسياسي والتواصلي كأداة فاعلة في التربية على المواطنة وحب الوطن وإدماج الوطنية الصادقة في نفوس الأفراد.
فالأخلاق هي عماد الحضارة وقطب الازدهار ونواة الأسرة؛ لأن مسارات الأخلاق الصحيحة تربى وتنشأ في بيئة سليمة وفي منبت حسن قوامه عرش الأسرة، ومدرسة رائدة. والمنظومة الأخلاقية تنبني على اكتساب مبادئ الخصال الحسنة والاحترام والتوقير. كما أنها تنعكس في ممارسة كل فاعل في المجتمع يؤدي وظيفته سواء في المرفق العمومي أو الخصوصي بأمانة وإخلاص ونزاهة، لأن الضمير مرتبط بالأسرة التي ترعرع فيها الإنسان وبالوازع الديني الصحيح، وكذلك مفهوم الجدية كآلية أخلاقية وإصلاحية واستباقية معنوية صريحة وواقعية نلمسها في بعض الأشخاص وتعكس تمثلاتها على مستوى الأسر في الإدارات والمؤسسات العمومية والخصوصية، وكل عمل يتقن في جميع المجالات يمكن أن يكون جديا أو غير مجديا أو غير موجودا أصلا أو تافها، فالجدية لها معايير وأدوات، ويجب حماية الأفراد الجديين وتأهيل المحيطين بهم لتسهيل عملية المواكبة والتأطير والانتقال إلى رهانات ذات طابع تحديثي موازنة بين طاقة الإصلاح والجيل الجديد، فالجدية أصلية وموروثة من الأصول أو تكتسب من المجال، فإعداد المجال مرتبط بإعداد الأفكار بتنزيل المضامين وتتبع المحتوى مع الطلب والعرض الثقافي السائد، لضمان تنشئة صالحة في مناخ تربوي رياضي، ثقافي، يضمن تفريغ الطاقات الشبابية في الفنون وحفظ القرآن، والمشاركة في الجامعات الشعبية والموسيقى الهادفة، والرياضة، والمنتديات الوطنية والدولية البناءة المتميزة في حوار الحضارات وتاريخ الدولة الطويل والمستمر لجميع الأجيال، والاشتغال على مهارات تطوير الذات إسوة مع تطور الأجيال الثلاث وخصوصا ظهور جيل جديد أعتبره الجيل الرابع، في زمن الانتقال الرقمي الذي يجمع المشاعر والمنافع والمضار والأمل والغضب وجميع التلوينات الهادفة والغير الهادفة.
إن المنظومة الأخلاقية تضمن الجدية لأنها ميثاق يجمع بين الأسرة، المدرسة، المسجد، الإدارة، المرافق الخاصة. وتعمل على توطيد أواصر المواطنة الحقة عن طريق أداء مختلف الوظائف العلائقية والبنيوية والسلوكات السائدة في الوسط المجتمعي بإيجابية، فخدمات بسيطة مقدمة في إطار تخليق المرافق العمومية والمقدمة إلى المرتفقين في جميع القطاعات بضمير مشبع بثقافة التواصل البناء والحوار الجاد والبشاشة الموسومة بلغة القبول والثقة المتبادلة في التوجيه أو المساعدة وحل كل المتطلبات في إطار ميثاق بسيط أساسه النية الصادقة والجدية والعفوية في التدبير، فكل هذه الأدوات من شأنها أن تشكل سدا منيعا من الاختراق الداخلي من طرف المؤثرات الخارجية السلبية.
كباحث في حقل السوسيولوجيا أتذكر بأن مفهوم التربية الأخلاقية التي تلقيناها في علاقتنا مع كل التلوينات المجتمعية من احترام التلميذ للأستاذ والصغير للكبير، واحترام الفقهاء والعلماء والتوقير لهم، والتضامن التلقائي مع الجيران في الأحياء بالمناسباتالوطنية والدينية، وفي الأفراح والمسرات والأحزان تكريسا لمبدأ التضامن التقليدي البسيط ولكن حمولته ذات وقع عميق في نفوس الأجيال وتكوين شخصية مرتبطة بثقافة الدرب، وحب للمناسبات الوطنية والمشاركة فيها، وتقوية أواصر المواطنة المبنية على أخلاق التضامن في إطار قانون أخلاقي محلي، جهوي، وطني انطلاقا من الخيمة، والزاوية، والدرب، والحي، ومن زاوية أخرى فالأب يقوم بدور المراقب العام للأسرة من خلال السلطة الأبوية المقرونة بالهبة ونخوة الرجل المغربي كنموذج للأبناء في كيفية رسم خريطة طريق منزلية ووقعها خارجي على المجتمع.
أما الأم فهي حافظة التوازن داخل الأسرة من تربية وإعداد الجيل وإمداده بغزارة من العواطف والتوجيهات الدراسية أو التنوير بمبادئ السلف وصنع المستقبل نظريا بالانضباط السلوكي أو المطعمي أو الدراسي إلى الانتقال إلى الواقعية وانتظار نتيجة إيجابية للأبناء وانصهارهم في مضمار النجاح والتفوق.
فإدارة الأسرة وخصوصياتها وتنظيمها يكرس ويحدد مسار المنظومة الأخلاقية والتربوية والاجتماعية، بتحديد الوظائف المنهجية عبر مؤسسة الأب والأم كفريق أولي يساهم في إخراج منتوج صالح لوطنه مشبع بالقيم والمثل الإنسانية وبالوطنية الصادقة، ومن زاوية أخرى دور المؤسسات الاجتماعية والمدرسة أولها في تزويد الأجيال بكل أدوات النجاح من خلال المناهج البيداغوجية الفكرية والتربوية المؤطرة والموجهة والحاضنة. فدور الأستاذ كرائد بفكره وقدوته وسلطته الروحية اتجاه تلاميذه باعتباره وصي ثاني بعد مؤسسة الأسرة بالاحترام المتبادل والتوجيه البناء وتتبع الظروف النفسية والاجتماعية للتلاميذ فتنتقل العلاقة من التدريس إلى علاقة ثقة واعتراف ونمط نحو النموذجية.
فعلا إن شباب الجيل الرابع الجديد هو سيرورة لمسار لتكوينات جديدة، ظروف جديدة، عقليات جديدة، تطور جديد، تحول عميق في دور الأسرة، ومحدودية المدرسة، ظهور وضعيات جديدة، تغير أساليب التربية، تراجع في وظيفة الأسرة والمدرسة في تشكيل شخصية الطفل تزامنا مع ظهور آليات جديدة ومؤثرات أكثر خطورة وهي الشبكة العنكبوتية كمؤسسة لها وجود وكينونة فرضت تعابيرها وأهدافها وأثبتت قوتها في اختراق سلوك وعقول الأطفال كمجتمع آخر له قراءة وممارسات تغيير كل المفاهيم قوانين التربية والعادات والأعراف في اتجاه أن العالم أصبح قرية واحدة، ومن هذا المنطلق وجوب تقنين ومراقبة الأبناء في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وإعادة النظر في تراجع القيم والمثل بدعمها والتركيز على مركزية الفرد على الذات الأخلاقية الحرة المبنية على التضامن واستنباط تاريخ المملكة المبني على الاحترام وحب الوطن والجدية التي تأصل عليها أجدادنا في سبيل بلورة إنشاء الأسرة ودعمها بكل مقومات الشخصية الناجحة بالأناقة والهمة والحفاظ على الموروث الثقافي والديني والوطني بالحب ومكارم الأخلاق والتميز بالمسؤولية المجتمعية نقيض المواقع الإلكترونية الحديثة بعضها الداعي إلى الإباحية والاستغلال المادي والاشهاري فقط دون استحضار أصالة المجتمع المغربي.
من خلال نظريتي العفوية لهذا الموضوع كان لا بد أن أوجهه إلى المضمار الأكاديمي كمساعد في تحديد قواعد النجاح للتربية الأخلاقية وفي هذا الإطار استلهمت نظرية دوركهايم في التربية الأخلاقية والتي حددها في ثلاثة أهداف أساسية لإنجاحوتصحيح السياسات في التأطير التربوي نحو قانون أخلاقي فاعل وفعال في الحفاظ على كل المبادئ العامة في إنتاج أفراد مساهمين في التطور المجتمعي.
أولها: روح النظام: وتتمثل فيها بالقاعدة الأخلاقية المبنية على بناء روح النظام واحترام السلطة بناء على وظائف الأسرة وأدوارها السيكولوجية والبسيكولوجية في تكوين شخصية الطفل، ولا ننسى دور المدرسة في المساهمة في تعلم الطفل بصورة متدرجة من خلال التركيز على هامش الحرية التي يمكن للطفل أن يمارسهاليفهم ما يفرض عليه ويدرك معنى حريته؛
ثانيا: الالتزام الاجتماعي: مرتبط بانتماء الفرد إلى وسطه الاجتماعي والحاجة إلى الانتماء لمجتمعه الكبير ويسعد بأنه جزء منه لا يتجزأ ويوجب عليه أن يشارك في الحفاظ على النظام والقيم؛
ثالثا: الذكاء الأخلاقي: يعتبر من أبرز العناصر المشكلة للدورة الأخلاقية في نظرية دوركهايم ويتجلى في قدرة الذكاء الأخلاقي بمعرفة فعالة بمختلف المعايير والتقاليد الأخلاقية في المجتمع، ورغم ذلك فكل فرد يولي مصالحه الشخصية كثيرا من الأهمية والتقدير مقدما إياها على المصالح العامة للحياة الاجتماعية.
الملاحظ أن دوركهايم حدد لنا قواعد التربية الأخلاقية المرتبطة بالمنظومة الأسرية والتعليمية ولمعالجة الذات وتحقيق التوازن بين المصلحة الشخصية والعامة والشعور بالانتماء إلى الوطنوإسقاط هذه القواعد الهامة في التأطير التربوي والأسري والمجتمعي من شأنه أن يرفع منسوب الوطنية لدى الأفراد ومحاصرة كل أشكال العنف والتقصير في أداء الخدمات للصالح العام.
فعندما يتأمل السوسيولوجي ويفكر تفكيرا عميقا في بعض السلوكات والظواهر ويحاول أن يجدد نظرية بعبقريته الخاصة ويترجم ما بداخله إلى الواقع رغم صعوبة الظاهرة وخصوصا مع اختلاط الواقعية والمنطق بالخيال واللامنطق ومخالفة القاعدة الأساسية ومصادرها فتبدع في محاولة ايجاد أدوات وتصورات اجتماعية لتشكيل البناء الاجتماعي الصحيح ضمن منظومة معقدة من أبرزها التطور الرقمي الغير المحدود وفي ظل تراجع وظيفة الأسرة كمفهوم بنيوي والمدرسة كمفهوم تأطيري وتوجيهي في اختيار مسلسل يحمل في طياته غزارة ثقافية، تواصلية.
لابد من البحث عن مقترحات عملية أكثر نضجا وفعالية حفاظا على قيمة المنظومة الأخلاقية في نسقها القيمي والإصلاحي كخيار أساسي في مواجهة ظلامية الأفكار الهدامة والتحريضات المفتعلة والبرامج المعروضة على الشبكة العنكبية الداعية إلى الانحلال الخلقي والمؤثرة سلبيا في أهداف البنية الاجتماعية والتشكيك في قيم الإنتماء.
مما يفرض على كل الفاعلين التتبع اليومي لأبنائنا وعلاقتهم بالشبكة العنكبوتية والرقمية عن قرب، والعمل على التوعية والتوجيه، وتطوير القدرات واكتساب أدوات مفاهيم مساعدة في تربية الأجيال على القوة الناعمة مع الجيل الجديد الشغوف بالإنترنت، واللحظية، والنفعية السريعة بالرياضة والسينما الهادفة، وحفظ القرآن، وفتح دور الشباب ومكتبات الحي، والمسارح،…
وإعادة النظر بعلاقة الأفراد بالمرافق العمومية والخصوصية بالحوار البناء والمجدي، وبناء الثقة بالمؤسسات، ولا ننسى صيانة الروابط الاجتماعية عن طريق تربية الأجيال على حب الوطن الصادق في حياتنا الروحية والوطنية.
* نبيل بلعطار، دكتور في علم الاجتماع السياسي والديني، باحث في العلوم القانونية والهندسة الاجتماعية.