بقلم : إدريس ممادي
كلما ذُكرت مدينة فاس المغربية إلا وذهب العقل مباشرة عند البعض لتشبيهها بالواقع العربي عند النكبة والنكسة ، فلا يبقى إلا البُكائيات على ماضٍ مُشرق يألم له القلب بشدة . لكن أليس هنالك بمدينة فاس اليوم قياسا بالدول العربية بوادر نهضة قد ظهرت ؟
بقيت مدينة فاس عاصمة للمغرب حتى توقيع “معاهدة الحماية ” بين المغرب وفرنسا في 30 مارس 1912م ، وبنهاية أبريل من نفس السنة غادرت صفة العاصمة عن المدينة إلى الرباط بدون عودة لحدود اليوم ، وذلك بسبب رد فعل أهلها القوي والرافض للاحتلال الفرنسي فيما عُرف بـ “أحداث فاس الدامية”، والتي قُتِل فيها الكثير من الجنود الفرنسيين على يد بعض الجنود المغاربة بمساندة ساكنة المدينة.
ويمكننا اعتبار ما تبع ذلك نكبةً على المدينة، حيث إنها ومنذ تلك اللحظة لن ترى من الاستعمار الفرنسي إلا التهميش انتقاما للجنود المقتولين في الأحداث المذكورة . وبحصول المغرب على الاستقلال سنة 1956م، لن يزيد الوضع إلا كارثيةً، فيما يمكن اعتباره نكسةً ومزيدا من الخسارة في النفوذ .
ففي سابقة من نوعها بالمغرب، كان بها إطلاق الرصاص الحي “وقعت أحداث دجنبر 1990. حيث تجمهر حوالي 500 طالب بساحة فلورنسا وشارع الحسن الثاني بمركز المدينة وفي الأطراف (فيما عُرِف بـ إضراب فاس)، أُطلق الرصاص على المتظاهرين ، فسقط العديد من الضحايا : 23 حسب البلاغ الرسمي و42 حسب تقرير اللجنة البرلمانية ، وأكثر بذلك بكثير حسب دراسات مستقلة ” ( محمد مزين وآخرون : تاريخ مدينة فاس).
وكما وقع في القضية الفلسطينية فقد وقعت الواقعتين المعروفتين بالنكبة والنكسة _المذكورتين_ بشكل مُصَغَّر في مدينة فاس ، فيما يمكن أن يُصطلح عليه ” بالقضية الفاسية” ، وفي كل مرة من المرتين كانت المدينة تُعاني أشد المُعاناة ويعاقَب أهلها بأشد العقوبات ، خاصة منها التي تضر جدا ألا وهي العقوبة الإقتصادية . سيما وأن أهل المدينة معروفون بالعِلم والثقافة والاهتمام بالسياسة، وبالتالي كانوا إلى جانب مدينة مراكش الرقم الصعب في تاريخ كل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب.
واليوم مدينة فاس وكأنها تولد من جديد بعد ركود كبير ، فقد احتلت جامعتها سيدي محمد بن عبد الله (الناشئة سنة 1975 ) الرتبة الأولى في المغرب والرتبة 10 افريقيا والرتبة 14 عربيا و215 عالميا من أصل 414 جامعة عمرها أقل من 50 سنة ، وذلك في تقرير صدر قبل أيام في يوم الأربعاء 24 يونيو 2020 (الموقع الرسمي لـ تايمز هاير إيدوكيشن المختص في تتبع شؤون الجامعات في العالم).
واليوم أيضا بمدينة فاس تنشط حركات شبابية كبيرة على غِرار العديد من المدن المغربية في الأزقة و”الحومات الشعبية ” التي طالما تسلّطت عليها الكاميرات لتصوير الجرائم والأزبال، فها هي اليوم بفضل طاقات شابة تسهر ذات الأحياء الشعبية على ازدهار المناظر بكل من منطقة باب الفتوح قرب المقبرة وسيدي بوجيدة وحي القلقليين بالمدينة القديمة ، بل ووصل الإبداع في حي يسمى حي الوِفاق للرسم على الأرض .
وفي مجال كرة القدم فإن فريق المغرب الفاسي العريق ومنذ نزوله إلى القسم الثاني من البطولة سنة 2016م في يوم مُظلِم جدا في المدينة ، والمُعاناة تلاحقه ، وقبلها فريق الوداد الفاسي أيضا ، ومنذ ذلك الحين والحركة الرياضية تكاد تكون ميتة في المدينة، وهذا الموسم يسير الفريقان بخطى ثابتة نحو الصعود للقسم الأول للمحترفين ، خاصة المغرب الفاسي المتصدر .
ولا أَدَلّ على محاولة النهوض بالمدينة من الجِداريات المُبهِرة التي يرسمها جمهور فريقي المدينة ، وخاصة جمهور المغرب الفاسي هذه الأيام ، حيث لا يتوقف الإبداع أبدا ، ولعل أبرز ما رُسِم ؛ الجِدارية التي تُخلِّد لذكرى المرحوم أسطورة الكرة المغربية في الحراسة حميد الهزاز في منطقة بن دباب ، وجِدارية عبد الله التازي في منطقة الدكارات ، بل وجِدارية لمعظم أفراد مجموعة ” الفطال تيغرز ” الذين ماتوا وهم مشهورون بحبهم للفريق ، وفَقَدَهم ليس فقط الفصيل المسانِد للفريق ، بل والجمهور الفاسي العريض .
ولم يَخْلُ فن الشارع ” الراب ” من سطوة مبدعي مدينة فاس في المدة الأخيرة بالبلد كلل ، حيث برز وبشكل كبير فنانين من المدينة والمعروفين على التوالي باسم ” ولد الكْرِيَّة ” و ” لْزْعْر ” لِيَشُدَّا إليهما إلى جانب “الكناوي ” الأنظار على مدار شهور عدة في الإعلام الوطني .
هذا دون نسيان الشركة العملاقة ” كوطيف ” التي أَغلقت أبوابها قبل سنوات بالمدينة وخلّفت معاناة كبيرة لدى عائلات المستخدَمين ومناصب شُغل مُغَيَّبة، والجديد في الموضوع والخبر المُفرح لكل ساكنة المدينة أن الشركة اليوم في طور الإستعداد وإعادة الصيانة ، وذلك على أمل أن تفتح أبوابها في المستقبل القريب ، ولكونها تُشَغِّل شبكة مهمة جدا من المعطّلين بالمدينة وأيضا لأنها قبل الإغلاق كانت من أكبر الشركات بالمدينة ، إن لم تكن أكبرهم .
وكل هذا الحديث السابق الناظر لبوادر الأمل في نهوض مدينة فاس المغربية لا يعني أن المدينة أصبحت أو ستصبح بالضرورة جنّةً فوق الأرض ، وذلك ما دامت كل المُخلَّفات التاريخية تُلاحِقها ، وحتى موقعها الداخلي الشمال وسطي بخريطة البلاد الذي كان يُُساعِد الباحثين على القول باستراتيجية موقعها في الماضي ، فإنه اليوم قد تبخّر هذا الكلام ، بالاهتمام الكبير الذي باتت تحظى به المدن الساحلية .
وهل أغربه من قول موجود أن يكون أغنى أغنياء المغرب جُلهم من أصول فاسية ، وتكون مدينتهم في القاع ، مع تفضيلهم للاستثمار ( وهذا حقهم طبعا في البحث عن الربح ) بالمدينة – القطب الدار البيضاء .
وتبقى مدينة فاس بتاريخها الطويل لابد أن تنهض يوما ، احتراما على الأقل لماضيها الجميل والمزدهِر ، ومن يدري لعلّ سبب نهضة الماضي قد يكون نفسه سبب نهضة اليوم ، والحديث هنا عن العِلم والثقافة ، وأي مدينة في المغرب اضطلعت بالدور الريادي بهذين المجالين في التاريخ ، غيرها مدينة فاس !