طاووس بن كيسان اليماني.. أشرس معارض لبني أمية من التابعين
سيف الدين رحماني
مما يضرب به في نماذج العزة عند العرب والمسلمين من التابعين المرضيين، هذا النموذج الفذ الأحوذي، فريد عصره في هذا الفن، صاحب الهوى العلوي المحب لآل بيت النبي، طاووس ابن كيسان اليماني ، الفقيه القدوة عالم اليمن ، أبو عبد الرحمن الفارسي ، ثم اليمني الجندي الحافظ.

الرجل الذي كان يعد الحديث حرفا حرفا ويقول : “تعلم لنفسك ، فإن الناس قد ذهبت منهم الأمانة”.
كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له ، فقيل: “هو مولى بحير بن ريسان الحميري ، وقيل: بل ولاؤه لهمدان”.
قال فيه أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الألقاب: “إن اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، وإنما لقب به لأنه كان طاوس القراء، والمشهور أنه اسمه. عده أصحاب الطبقات، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل اليمن.
سمع من نفر كثير من الصحابة،
يذكر الحافظ الذهبي في أعلام الطبقة الثانية في سير أعلام النبلاء انه سمع من زيد بن ثابت ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وزيد بن أرقم ، وابن عباس ، ولازم ابن عباس مدة ، وهو معدود في كبراء أصحابه.
وروى أيضا عن جابر ، وسراقة بن مالك ، وصفوان بن أمية ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو.
ثم روى عنه عطاء ، ومجاهد ، وجماعة من أقرانه.
وحديثه في دواوين من الإسلام ، وهو حجة باتفاق .
شهادة الحبر له بالفضل:
روى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : “إني لأظن طاوسا من أهل الجنة” .
و روي عن مجاهد انه قال لطاوس : “رأيتك يا أبا عبد الرحمن تصلي في الكعبة ، والنبي صلى على بابها يقول لك : اكشف قناعك ، وبين قراءتك”. قال طاوس : “اسكت لا يسمع هذا منك أحد”، قال : “ثم خيل إلي أنه انبسط في الكلام ، يعني فرحا بالمنام”.
و مما يروى في عبادته و حرصه على صلاة الليل:
عن دواد بن إبراهيم، أن “الأسد حبس ليلة الناس في طريق الحج ، فدق الناس بعضهم بعضا ، فلما كان السحر ، ذهب عنهم ، فنزلوا وناموا ، وقام طاوس يصلي ، فقال له رجل : ألا تنام ، فقال : وهل ينام أحد السحر”.
زهد عجيب وهبه الله له:
فلقد كان من دعاء طاوس : “اللهم احرمني كثرة المال والولد ، وارزقني الإيمان والعمل” .
من حطه لقدر نفسه و استضعافها و هي الضعيفة امام رب العزة, أن رجلا قال لطاوس : “ادع الله لنا ، قال : ما أجد لقلبي خشية ، فأدعو لك “.
و هو صاحب الموقف المهيب مع الماجنة:
قالت امرأة ماجنة: “ما بقي أحد إلا فتنته ما خلا طاوس، فإني تعرضت له فقال: إذا كان وقت كذا فتعالي فجئت ذلك الوقت فذهب بي إلى المسجد الحرام، فقال: اضطجعي فقلت: هاهنا! فقال: الذي يرانا هنا يرانا هناك”.
وقال عمرو بن دينار: “ما رأيت أحدا قط مثل طاوس، لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاوس: إن أردت أن يكون عملك خيرًا كله فاستعمل أهل الخير فقال عمر: كفى بها موعظة…
فمن ملامح شخصية طاوس بن كيسان في
عبادته:
عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه قال: “صلى وهب بن منبه وطاوس اليماني الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة، وكان طاوس يصلي في غداة باردة مغيمة فمر به أيوب و محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف الذي كان يقع في علي بن ابي طالب عليه السلام ويطنب في سبه، وهو ساجد في موكبه فأمر بساج وطيلسان مرتفع فطرح عليه، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله.
يشهد له في علمه:
فلقد كان طاوس فقيهًا جليل القدر نبيه الذكر، وأصبح سيدًا لأهل اليمن بعلمه. فعن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية قال: إن الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا؛ قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالى قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء.
و على شاكلة الرافضين عبر التاريخ للهوان و الصغار يرى ان التكلم و المضاربة على الحقوق اولى من السكوت و دفنها و لابد من حرية التعبير.
روي أن طاوسا قال له :” يا أبا نجيح ! من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى الله”.
و هو مبدأ المرافعة المشروعة يصلح و لكن ليس لاصحاب الضحالة الفكرية.
يروي مطهر بن الهيثم الطائي عن ابيه، ذكر هذا الاسناد الذهبي في السير أن سليمان بن عبد الملك وفي رواية لابن خلكان أن هشاما بن عبد الملك قدم حاجًّا إلى مكَّة، فلما دخلها، قال: ائتوني برجل من الصَّحابة. فقيل: يا أمير المؤمنين، قد تفانوا. قال: فمن التَّابعين، فأتوه بطاووس اليماني. فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلِّم بإمرة أمير المؤمنين، ولكن قال: السَّلام عليك، ولم يُكَنِّه، ولكن جلس بإزائه. قال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبًا شديدًا، حتى همَّ بقتله. فقيل له: أنت في حرم الله ورسوله، فلا يمكن ذلك. فقيل له: يا طاووس، ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟! فازداد هشام غضبًا، وقال: لقد خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تقبِّل يدي، ولم تسلِّم بإمرة أمير المؤمنين، ولم تكنِّني، وجلست بإزائي بغير إذني. وقلت: كيف أنت يا هشام؟
فقال: أمَّا ما خلعت نعلي بحاشية بساطك، فإنِّي أخلعهما بين يدي رب العِزَّة كلَّ يوم خمس مرَّات، فلا يعاتبني، ولا يغضب علي. وأما قولك: لم تقبِّل يدي. فإنِّي سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لا يحلُّ لرجل أن يقبِّل يد أحد، إلَّا امرأته من شهوة أو ولده برحمة). وأما قولك: لم تسلِّم بإمرة أمير المؤمنين. فليس كلُّ النَّاس راضين بإمرتك، فكرهت أن أَكْذب. وأما قولك: جلست بإزائي؛ فإنِّي سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النَّار، فانظر إلى رجل جالس وحوله ناس قيام). وأما قولك: لم تكنِّني. فإنَّ الله عزَّ وجلَّ سمَّى أولياءه، وقال يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنَّى أعداءه فقال:تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] فقال هشام: عِظْني. فقال: سمعت أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه يقول: (إنَّ في جهنَّم حيَّات كأمثال القِلَال، وعقارب كالبغال، تلدغ كلَّ أمير لا يعدل في رعيَّته)، ثمَّ قام وذهب ذكره ابن خلكان في ((وفيات الأعيان)).
و من عجيب ما حدث في هذا الحوار هو كثرة استدلاله بالامام علي عليه السلام اغاضة لسليمان, ونبزا له من قريب، اذ غالب بني امية لهم عقدة من آل البيت كما قال اصحاب الأخبار و الآثار و ربما تطورت فأصبحت حسدا من عند أنفسهم. فبين له بأن هواه كان علويا و قيل عن طاووس بأنه يتشيع
كما ثبت عن سفيان الثوري أنه قال: “كان طاوس يتشيع”.
و لا عجب إذ أصبح حب آل البيت يسوق لك تهمة التشيع و اكرم بها تهمة.
و ليس من طبعه أن يحابي أو يصانع, أو أن يقدم ابن ملك عن ابن عامة او غيره وهذا ما حدث مع ابن سليمان بن عبد الملك.
عند الذهبي…أن أبا عاصم النبيل قال : “زعم لي سفيان قال : جاء ابن لسليمان بن عبد الملك ، فجلس إلى جنب طاوس ، فلم يلتفت إليه فقيل له : جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ! قال : أردت أن يعلم أن لله عبادا يزهدون فيما في يديه”.
ومن أخباره الواسعة الضاربة في تاريخ العزة و جودة النفس و نبذه للسلطان و قربته و ماحوته حضوته. يروى عن النعمان بن الزبير الصنعاني, يحدث أن محمد بن يوسف الثقفي أمير اليمن أخو الحجاج ، أو قال أيوب بن يحيى. يعني واحدا من هؤلاء الأمراء.انه بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار أو خمسمائة على سبيل استلطافه و ازدلافه من طريق هو من مشهور شراء الذمم ، فقيل للرسول حامل صرة الأموال: “إن أخذها الشيخ منك ، فإن الأمير سيحسن إليك ويكسوك ، فقدم بها على طاوس الجند ، فأراده على أخذها و ألح عليه في قبولها ، و لكن الامام أبى فغفل طاوس ، فرمى بها الرجل في كوة البيت ، ثم ذهب وكذب عليهم : بانه قد أخذها ، ثم بلغهم عن طاوس شيء يكرهونه و كانوا ممن يقدحون في السلاطين ويقفون في وجوههم. فقال : ابعثوا إليه ، فليبعث إلينا بمالنا ، و من الخسة و سوء الذوق أن يرجع الشخص في اعطيته. فجاءه الرسول ، فقال : المال الذي بعث به الأمير إليك ، قال ما قبضت منه شيئا، فرجع الرسول ، وعرفوا أنه صادق ، فبعثوا إليه الرجل الأول ، فقال : المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن ، قال : هل قبضت منك شيئا ؟ قال : لا ، ثم نظر حيث وضعه ، فمد يده فإذا بالصرة قد بنى العنكبوت عليها ، فبدا لهم من بعد ما اساؤوا الظن في شراء ذمة الامام يحسبونها هين، فوقع في نفسه أمير الجند محمد بن يوسف و علم بانه إمام همام لا يشترى.
الخبر فيه من الشهامة و العزة ما لو لم يوصف لنا غيره لما صدقناه.
و يؤكده إبراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة يحلف و يقول: ورب هذه البنية ما رأيت أحدا ، الشريف والوضيع عنده بمنزلة سواء الا طاووسا.
يقول عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة طلبك أن تدعوه ووعدك الإجابة.
وقال عبد الله بن طاوس: قال لي أبي: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجُهال فتنسب إليهم، وإن لم تكن منهم واعلم أن لكل شيء غاية وغاية المرء حسن عقله.
عمره الله عمرا مديدا و لم تزر به رزية في عقله.
يروى عن ابي عبد الله الشامي, انه قال : استأذنت على طاوس لأسأله عن مسألة ، فخرج علي شيخ كبير فظننته هو فقال : لا ، أنا ابنه ، قلت : إن كنت ابنه ، فقد خرف أبوك ، قال : تقول ذاك ! إن العالم لا يخرف ، قال : فدخلت ، فقال لي طاوس : سل وأوجز ، وإن شئت علمتك في مجلسك هذا القرآن والتوراة والإنجيل ، قلت : إن علمتنيهم لا أسألك عن شيء ، قال : خف الله مخافة لا يكون شيء عندك أخوف منه ، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه ، وأحب للناس ما تحب لنفسك.
من كلماته:
ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه.
توفي الرجل و خبره ذاع في الآفاق و سيرته ملأت الاوراق. عن ابن شوذب قال : شهدت جنازة طاوس بمكة سنة خمس ومائة للهجرة ، فجعلوا يقولون : رحم الله أبا عبد الرحمن ، حج أربعين حجة.