بين سلوك الملوك وسلوك الصعلوك

سلوك جميل دأب عليه الملك محمد السادس، يدل، بدون مبالغة ولا بهتان، على مكارم الأخلاق التي يُوتِيها الله لمن يشاء، ولا تُواتِي إلاّ العقول المُهيَّأَة والنفوس الطيبة؛ لأن المكارم والقيم والخصال الحميدة..خصال غير قابلة للبيع والشراء والمقايضة والكراء. وكما قيل: الطّبْع يغلب التطبُّع. مَن طُبِع على شيء سار عليه. ولن يتحوّل البخيل إلى كريم، والمنافق إلى حليم، والمستكبر إلى متواضع ..كما لن يستطيع اللَّقْلاَق تغيير مشيته…ولو أنفقوا ما في الأرض جميعا.
يتمثل السلوك الملكي في بادرة بسيطة في شكلها ومبْنَاهَا، عميقة في معناها، وهي تقديم المساعدة أو العزاء في وفاة مواطن من مواطنيه، من أسرة الفكر والعلم والثقافة والإعلام والفن، وإنْ كانت لا تشمل البعض، فقد يكون ذلك راجعٌ، ربما، لِلاَّئحة التي تُقَدَّم للملك..
ما جعلني أُثير هذا الموضوع، بعد تفكير وتفَكُّر، ورؤية ومشاهدة، ما أصبح يطفح به مجتمعنا من سلوكات، ما أنزل الله بها من سلطان، لدى مسؤولين في قطاعات معينة. مسؤولون ينتقٌون انتقاءً، بحرص وعناية، مَن يستحق الوقوف بجانبه في الأفراح والأْتراح، ومساعدته في السّرّاء والضّرّاء، سواء تعلق الأمر بمسؤُوليهم المباشرين وغير المباشرين، أو حتى بمن يشتغلون تحت إِمْرَتِهم في القطاع الذي وُكِل إليهم أمر تسييره. هكذا يتم انتقاء واختيار مَن يستحق العناية، ومن يستحق “التكرفيص” والإهانة. وكلّ هذا مُغلَّفٌ بالكذب والنفاق والمكر والخداع…
سُلُوك يكاد يصبح قاعدة في مجتمعٍ جُبِل على الكرم والحِلم والإيثار والنبل والصِّدق..وليس على ما يُسمّى ب”التْمَسْمِير”، و”التْمَقْليع”، و”التْقَنْبِيل”، و”الفُوحان”، و…هي أساليب أصبحت سائدة في المجتمع ، وتحظى بالإعجاب والانبهار، وكأن هؤلاء “المسامرية”، و”المقاليع” ..ومن سار على منوالهم، يقومون ويقدّمون خدمات جليلة للوطن والمواطن مع أنهم يهلكون البلاد والعباد ؛ والأغرب أنك تجدهم من المقرّبين الذين يتقدّمون القوم ويحظون بالجلوس مع كبار القوم في الصفوف الأمامية..
النفاق لا يشمل فقط المسؤولين الكبار، بل حتى المسؤول عنهم الصغار . تجد هذا الصغير لا يهدأ له بال حين يتعلق الأمر بخدمة مسؤوله (الكبير)، الذي يستغله ويهضم ما تبقّى له من حق . تجده ، في مناسبة من المناسبات يتصل ويُعاوِد الاتصال، بمختلف وسائل الاتصال، والإصرار لحضور معاليه المناسبة ، كانت فَرَحاً أو تَرَحاً ؛ يليه إصرار آخر ـ لم يطلبه أيّ أحد منه ـ على الوقوف بجانب مسؤوله ومساعدته في كل ما يتطلبه الأمر من استقبال المعزِّين أو المهنِّئين، القريبين والبعيدين..ولا يهم ، في كل هذا وبعده ،تغيُّب المسؤول عن عمله طيلة أيام هذه المناسبة التي قد تستمر أسبوعا، علْماً أنه المسؤول الأول عن المؤسسة التي وُكِلت إليه مسؤولية تسييرها.. لكن يُسيِّرها بالهاتف، عن بُعْد.
أما إذا توفي عضو من أسرة أحد المستخدمين أو العاملين في المؤسسة، فلن يكلف هذا المسؤول نفسه الاستفسار أو السؤال عنه ، أو حتى دعوته، من باب رفْع الحرج، إلى مكتبه لتقديم “واجب العزاء”.. على اعتبار أنه لا تسمح له مكانته ووضْعُه ومركزه بتحمُّل مشاق الذهاب إلى بيت الفقيد للتعزية ـ وكأنه سيذهب ماشياً على القدمين ـ وقد يصل الأمر إلى عدم الترخيص للمستخدم أو العامل بالتغيب أكثر من يوم لحضور طقوس وإجراءات دفن أبيه أو أمه أو ابنه أو أحد من أعضاء أسرته.. أما تقديم مساعدة له، كما جرت به العادة في مثل هذه الحالة، فذلك أمرٌ مُستبعد وغير واردٍ على الإطلاق..
صورة تتكرر، ويتكرر معها هذا السلوك المشين الذي يدل على النفاق في أبرز مظاهره وتجلِّياته، وفي أرْذَل صُوره وأشكاله. يحدث هذا في الأفراح والأتراح ..وما الدنيا إلا فرَح وتَرَحٌ.
أذكر أن مسؤولاً، من هذه الفصيلة من المسؤولين الذين ابْتلِيت بهم إداراتنا ومؤسساتنا ..وبلدنا، وسقطوا، سَهْواً، من السقف .. ترشَّح للانتخابات التشريعية وفاز بمقعد الدائرة ليصبح، بين عشية وضُحاها، نائبا برلمانيا.. تَفتٌّقت عبقرية أحد المستخدمين بإعداد لائحة طاف بها على زملائه وزميلاته في العمل، للمساهمة بمبلغ من المال يتم تسليمه،مع باقات ورود ، عربون وفاء وإخلاص(؟؟؟ !!!) ..إلى مديرهم (البرلماني) عند زيارتهم له في منزله.. !!! ؟؟؟ تمت العملية واتَّفق الجمْع على موعد الزيارة، باستثناء واحد منهم رفض المساهمة والمشاركة في هذه “المبادرة”. ولما سُئل من طرف أحد الزملاء عن رفضه، أجابه: أمَا كان من الأوْلَى والأجدر أن ينظم المدير ـ البرلماني حفلا صغيرا في المؤسسة وفي نفس الوقت تهنئته…
حين أُخْبِر المدير بموقف زميلهم الرافض .. سلّط عليه سيف التهميش والإقصاء، ومختلف أساليب القهر التي يتقن ويتفنّن كثير من المسؤولين ممارستها على من ساقتهم الأقدار ليشتغلوا تحت إمْرَتِهم ومسؤوليتهم، علْماً أن هذا المدير لم يكلّف نفسه، من قبل، حتى تقديم واجب العزاء لهذا المستخدم بمناسبة وفاة أمّه ثم أبيه…وكان عقابه أنه لم يشارك في جوقة المهنّئين والمُطَبِّلِين.
مسؤول آخر أرْغَدَ وأزْبَد ، لدرجة الهستيريا أو ما يشبهها، فقط لأن عاملا تأخّر عن العمل.. بعض الوقت .. ولما التحق المسكين بشغله، ولم يأخذ نفَسَه بعد، إذا بالمدير يصبّ عليه غضب الأوَّلين والآخِرين. لم يستفسره عن سبب التأخٍّر..فأخبره المسكين أنه نقل زوجته الحامل إلى المستشفى، وعاد مُسرِعاً إلى عمله بدون أن يعرف ماذا وضعت امرأته..وإمعانا في العجرفة والتسلط ،حرمه من الإجازة التي يقرّها وبُوجِبُها قانون الشغل في مثل هذه الحالة ، بل توعّده بالاقتطاع من أجرته ـ الهزيلة ـ رغم أن المستخدم المسكين لم يتغيّب سوى دقائق معدودة..
+++++++++
إذا كان ملك البلاد يتواضع ويُعزّي، بل يقدّم مساعدات لهذا وذاك وهذه وتلك .. من مواطنيه، بغض النظر عمّن يكونوا ولمن ينتسبُوا.. فهناك زمرة من الناس تراهُم، حين يجدون أنفسهم في موقع المسؤولية، متعجرفين، متجبِّرين، متكبِّرين، مستكبرين، لا يمشُون على الأرض هَوْناً ، ولا يقولون سلاماً؛ لا يعرفون الله ولا عباده ؛ تجدهم يتهافتون، مع الإصرار والترصُّد .. لتقديم العزاء والتهاني والخدمات لمن فوقهم من المسؤولين .. ليس تفضُّلاً ولا تكرُّماً ولا تواضعاً .. بل نفاقاً وتزلّفا وتملّقاً بهدف الحصول على المزيد من التعويضات، والمزيد من الترقيات.. والمزيد المزيد من الامتيازات …والمزيد من غضِّ الطرف، و”عين مِيكَا”عن ….. التجاوزات والانتهاكات.