تربويةثقافيةوطنية

باللوحة والطباشير وقلم الرصاص والريشة وتلاوة “بوكماخ”…

هذه رسالة من الكاتب والروائي الفرنسي الكبير “ألبير كامو”، صاحب “لابيست” (la peste)،”ليترانجي”(l’etranger) ،”السَّقطة” (la chute)،”أسطورة سيزيف”(le myte de sisyphe)،”كاليغولا”(caligula)…وجّهها لمعلِّمه جيرمان (19 نونبر 1957)، يعبّر له فيها عن كل الشكر والامتنان والاعتراف والتقدير له..وأنه بدونه لم يكن هو …وأنه ، رغم كبره ،يظل تلميذك المعترف بفضائلك ..(انظر نص الرسالة المرفقة).

رسالة ألبير كامو لمعلمّه ،أيقظت في المواجع كما يُقال، فرُحْتُ أفتتش في أوراقي القديمة عن مقال كتبته  عن معلمي ..منذ سنوات خلت، في عمود “صباح الخير ياوطني” بجريدة “العلم”، تقديرا واحتراما واعترافا وامتنانا لمن علّمُوني من المسيد إلى المدرسة والثانوية والجامعة..علْماً أن تعليم الأمس لا علاقة له بتعليم اليوم ،شكلاً ومضمونا…تحت عنوان ” باللوحة والطباشير والريشة وتلاوة “بوكماخ”…

                          باللوحة والطباشير  وقلم الرصاص والريشة وتلاوة “بوكماخ”…

                         حمادي الغاري       

 

 ” قُمْ للمعلم وفيه التبجيلا            كاد المعلم أن يكون رسولا”

  هذا ما علّمه لنا معلّمُو سنوات الستينيات، يوم كان فيه المغرب، الخارج من عهد الحجر والحماية، يبحث عن المعلم المغربي ب”الفتيل والقنديل”؛ يومها كانت المدرسة الابتدائية عامرة بالمعلمين من مختلف الجنسيات العربية إلى جانب الفرنسيين. وبعد سنوات قليلة، سيتم إلحاق كل من يحفظ القرآن الكريم والألفية، ومن له إلمام باللغة العربية… بالمدرسة من أجل تعليم أبناء الشعب .

    كان معلم تلك الفترة يحظى بكل التقدير والاحترام في المجتمع. وكان الرجل يقدم إليه فلذة كبده وهو يقول له (مَزاجياً): “اذبح وأنا أسلخ” . كان شيئا عاديا تماما، ومقبولا كل القبول أن يعاقب المعلم تلميذه ويستعمل جميع “صلاحياته” لتأديبه من دون تدخُّل من أحد. فالمعلم رجل “قارِي”، ولا يمكن أن يعترض عليه أحد…وبقدر ما كانت الأسرة حريصة على تعليم ابنها ، كان المعلم حريصا أيضا على أن يبذل كل جهده للمساهمة في تعليم وتربية النشء الصاعد ، لأنه هو رجل الغد ومستقبل المغرب.

بدون تعليق

     في هذه الأجواء تعلّمنا وتأدّبنا وتفوَّقنا وتأَلَّقنا فقط  ب…اللوحة والطباشير وقلم الرصاص والريشة. كان قلم “بيك ” أو ما شابهه من اختصاص المعلم وحده . ومن هذه الأجواء تخرّج الكثير ممن تقلدوا مناصب سامية، وما زال منهم الكثير إلى اليوم. ولن أكون مبالغا إذا قلت أن فيهم من يحمل في جسمه آثار ضربة من ضربات المعلم الذي كنا نتسابق إلى تقبيل يده. ويستحق ذلك.

   لقد ربح المغرب الرهان. فبالرغم من الوجود المكثف للفرنسيين في مدارسنا، تمكن هذا الوطن، بفضل اعتماده على النفس وعلى ما يتوفر عليه من أطر وطنية (على قد الحال)، أن يقيم أسس مدرسة وطنية كاملة، باللوحة والطباشير وقلم الرصاص والريشة وتلاوة “بوكماخ”.

  لم يكن وقتها حديث عما يسمى الآن بالبيداغوجيا ، ولا بالطرق التربوية المستوردة من فرنسا أو كندا، ولا بالمناهج التعليمية الغارقة في التنظير والبعيدة كل البعد عن كل ما هو مغربي .. كذلك، لم يكن هناك احتجاج لأتفه الأسباب أو بدون سبب.  ولم يحدث أن سمعنا أو رأينا تلميذا يعتدى على معلمه، أو أبا يهجم على معلم.. لأن المعلم كان يعتبر نفسه أبا للتلاميذ؛ وكان يؤمن بأن عليه واجبا إزاء هؤلاء الأبناء: أبناؤه وأبناء الشعب . أما الشيء الذي لا يمكن أن أنساه هو أناقة معلمينا ونظافتهم رغم وضعهم المادي غير المريح في تلك الفترة. ومع ذلك، كانوا يكابدون هموم الوطن..

  اليوم ،أصبح المعلم أو الأستاذ بمثابة “شيفون” ،أي شخص يمكنه أن يمسح عليه رجليه ويديه كما يُقال. آباء وأمهات يتطاولون عليه في قلب المدرسة بينما الأبناء – تلامذته ياحسرة – يعترضون سبيله ويشبعونه لكما وضربا على مرأى ومسمع من الناس . وويل لمعلم يقدم على ضرب تلميذه، فهناك من ينتظره عند رأس الدرب ل” يخلي دار بُوهْ. “

          قم للمعلم وفيه التنكيلا              كاد المعلم أن يكون جهولا

   أعتذر عن هذه التخريجة التي أخرجتها من كبد الواقع المؤلم الذي يعيش فيه أبناؤنا. وهذا هو واقع الحال مع الأسف .

 

                        ***************

    مرة، جاء شخص يسأل عني في الجريدة. لم أعرفه حين قابلته ،لكنه بادرني :”هل أنت فلان ؟؟” قلت نعم .قال :”هل درست بالمدرسة الفلانية ؟” قلت نعم . قال:” هل تتذكر اسم معلمك في مادة العربية في قسمي الابتدائي الأول والثاني؟ ” قلت في الحال :” كأنك السي محمد الألوسي؟” قال نعم … تعانقنا عناقا حارا.

   معلمي وأستاذي ، الذي علمني الحروف الأولى ،ومعها التربية الأسمى …جاء يبحث عني بعد أكثر من ثلاثين سنة… فقط لأنه كان يواظب على قراءة ما أكتب في عمودي… خجلت ، ولو وجدت حينها فرصة للبكاء لبكيت..  أنا الذي كان علي أن أبحث عنك..ياسّي محمد..انحنيت على يده لأُقَبّلَها. وهذا أقل شيء يستحقه.

    بعد هذا بأيام، التقيت بصديق من أصدقاء المدرسة أخبرني بوفاة معلمي في مادة الفرنسية، السي ابراهيم سليكان ، وما أدراك ما السي ابراهيم .. كانت آخر مرة التقيت خلالها بمعلمي وأستاذي في مادة الفرنسية، بالصدفة، قبل عشرين سنة.. كان لقاء ممتعا ما زال موشوما في الذاكرة.

   لن أنساكما يا أساتذتي  وكل من علمني. كنتم، كلكم، قمة في البذل والعطاء. جزاكم  الله عنا أحسن الجزاء.

   نعم ، باللوحة والطباشير والريشة وتلاوة “بوكماخ”، قرأنا وتعلّمنا وتأدّبنا وتفوَّقْنا وتألَّقْنا.

 

 

 

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button