الفاعل الحزبي السياسي المحلي بإقليم شفشاون وسبل التأهيل( 3/6)
صهيب مهدي
2ـ بين طوباوية “الشعارات” وفاعلية “البرامج”:
بفعل طغيان الوظيفة الانتخابية لسنوات طويلة، استأنست الأحزاب السياسية المغربية أن تكون أحزابا انتخابية بامتياز، هدفها الاساسي ربح الرهان الانتخابي عبر رفع الشعارات ذات السقف اللامتناهي، وشغلها الشاغل الظفر بالمناصب الانتخابية، حيث شكل “الإغراء” الانتخابي كابحا حقيقيا ل”التحدي” النضالي المنوط بها قانونا وواقعا. فالدينامية الحزبية الموسمية بالمغرب مقرونة دائما بالسباق المحتدم بين هذه الاحزاب نحو استقطاب ما يعرف ب”الأعيان الانتخابيين” والمرشحين ذوي القدرات التدبيرية لكسب المعركة الانتخابية، سواء بواسطة سلطة المال أو الجاه أو المكانة القبلية أو القرب من الادارة…، قبل كل موسم انتخابي، وهذا ما يبرر “النقاش السياسي” الساخن بين الفرقاء في كل محطة انتخابية. مما جعل الطلب الحزبي على هذا النوع من “الكائنات الانتخابية” يؤثر على العرض الحزبي السياسي المحلي، وجعل الحياة السياسية المحلية مصابة بفيروس العقم السياسي الغير قادر على انتاج النخب والكفاءات التدبيرية، فتراجع الفاعل الحزبي المحلي للخلف، بفعل هذا التوازن بين العرض والطلب السياسي، كلما تعلق الامر بتقديم البدائل للخروج من الأزمات وطرح القوة الاقتراحية لتجاوزها، منتظِرا تدخل الاطراف الاخرى لطي صفحتها.
ويشكل هذا المأزق أكبر عائق سياسي ومجتمعي أمام التطور السياسي، والتحدي الحقيقي لمفهوم الحزب محليا، وأكبر خطر يهدد المشروع الترابي والنموذج التنموي محليا، فأمام تحرر الفضاءات العمومية والاشخاص والمواضيع وتلاشي قنوات الوساطة التقليدية والتنشئة الثقافية لصالح فضاءات غير متحكم فيها، كالفضاء الازرق والشبكات العنكبوتية الالكترونية… يفترض استحضار تهديداتها. فالاعتراف بالأخطاء مقدمة لتجاوزها، فهذه الأخطاء كمسؤولية جماعية واستشعار خطورة التمادي فيها وعدم طي صفحتها أكبر عائق مجتمعي وسياسي لأي تطور مجتمعي، فالواقع والمجتمع والمواضيع … اليوم ليسوا هم على شاكلة الامس، حيث لم يعودوا رهينة الفاعل السياسي الحزبي لوحده، ولم يعودوا قادرين على العيش في ملك يمين احد وخاضعين لرهاناته الانية والمستقبلية. لهذا لا يمكن اليوم “شيطنة” أحد، أو إصدار أحكام قيمية مطلقة وأخلاقية مثالية ضد اخر، أو “تأليه” فلان، أو تحرير “صكوك الغفران” لسلوكات مشينة لعلان… فالمسؤولية جماعية مجتمعية.
فالتعالي بالذات السياسية على الجميع، السائدة لذى مختلف الاحزاب والمهتمين، وتنصيب النفس كحكم لاصدار الاحكام المسبقة وتقييم سلوكات الاخرين من فوق بروج عاجية من طرف المثقفين والاكاديميين المعنيين، دون بدل عناء الاصطدام بصخرة الواقع الصلبة وتضاريسه الوعرة… كلها سلوكيات سياسية متجاوزة مع انطلاق التأسيس للديمقراطية التشاركية في الأدبيات السياسية التي تتطلب انخراط الجميع كل من موقعه.
لهذا أصبح لزاما على الفاعل السياسي المحلي لمواكبة تحولات الفعل السياسي المعاصر، تجاوز مرحلة سيادة الشعارات “الرنانة” وخطابات “البديل الاوحد” و”الممثل الشرعي الوحيد”… فمع انطلاق دينامية الديمقراطية التشاركية المحلية منذ سنوات عالميا، ووطنيا بداية التأسيس لها مع دستور 2011، فرضت ديناميتها على الفاعل الحزبي المحلي، لتجاوز “عزلته” عن النسيج المدني والمجتمعي المحلي، ومواكبة تحولات الواقع المعاش، وتجاوز الدور الوظيفي الكلاسيكي…
ففي ظل انفتاح هذا الاخير المتنامي على العالم الالكتروني الافتراضي العالمي، وعلى مختلف التجارب السياسية في بلدان المعمور، وارتفاع منسوب التعليم لذى فئات شبابية جديدة في المغرب العميق، وانفتاحها على العالم السياسي الذي ظل لقرون حكرا على “أهل الحل والعقد” أو “الأعيان” بالمفهوم المغربي…، فمؤشرات هذه الديناميات، الخطابات المرفوعة ومنسوب مطالب “التخليق” العالي… السائد في الفضاء العام، مطلوب تحويلها من طرف هذا الفاعل الحزبي إلى واقع وممارسة تؤدي إلى برامج واضحة المعالم لها اثارها على المؤسسات والمجتمع، وقوة اقتراحية وميدانية لمقاومة “البؤس الساسي” السائد، فان لم تصرف عمليا على شكل تدابير واجراءات لتجاوزها، ستظل كمن يصب الماء في رمال الصحراء القاحلة، وحتى على هذا المستوى اذا لم تتوفر ولم تتوافق كل مكونات الحياة السياسية على استراتيجية واضحة للتجاوز، والوعي بضروراتها… ستظل النخب السياسية المعبرة على هذا الفاعل في جزيرتها الخالية، وستظل السلطة ومؤسسات التدبير المحلي والوصول لها هدفا بحد ذاته، لا وسيلة لتنميتها وخذمة مواطنيها، فسلوكات الاغتنام واللهطة والتعويضات والمساعدات السائدة…، محل سلوكات الإبداع والنضال والقوة الاقتراحية لتجاوز المشاكل…، لن تغني ولن تسمن الحياة السياسية المحلية، التي تحتاج لديناميات جديدة قادرة على مواكبة التحديات والتحولات، والنضال لتجاوز المعضلات المعاشة.
فالخطيئة الاصلية والكبرى التي تسود اليوم التدبير الترابي المحلي، والتي تعتبره منصبا للكسب الشخصي، وتفرض قيمها ومنطقها عليه، بعدما ضعفت وتقهقرت السلطة الرقابية المجتمعية والمدنية، لتحل محلها سلطة الزبائنية وخدمة المصالح الخاصة الضيقة وتفرض جبروتها وأسلحتها الفتاكة على دواليب هذا التدبير. لن تستطيع مستقبلا ابداع الحلول، وتنفيذ المشاريع…
وإذا كان الوعي المجتمعي بهذه السلوكيات السياسية المشينة، للأسف لم يتبلور بعد كبرنامج وقوة اقتراحية لتجاوزه، تجعل المسؤولية كذلك ملقاة على كل قواه الحية وشبابه المنفتح على ثقافة العصر، في الانخراط في العملية السياسية، والتشبع بثقافتها السياسية المعاصرة، كبديل لتدبير الاختلافات وإدارة الشأن العام المحلي، فبدل الاقتصار على البكاء على الاطلال، والانتقاد من أجل الانتقاد للشأن السياسي والسياسيين، وشعارات الطهرانية الذاتية من البروج العاجية، والبعيدة عن إكراهات الواقع المعاش…، كلها سلوكات مجتمعية لا تقل خطورة على السلوك السياسي المنتقد.
فالقليل من يتكلم اليوم في إقليم شفشاون عن البرامج والافكار والاجوبة المناسبة، لتجاوز واقع الهشاشة والمعضلات الاجتماعية الكبرى التي يعانيها شباب لا يجد أفقا واضحا لتحقيق حياة كريمة، أصبحت على مرئ أنظاره في العالم الالكتروني، كما يعيشها أقرانه في غيره من بقاع العالم، والفاعل السياسي الحزبي المحلي خارج تغطية النقاش السياسي الذي يرافق مختلف الاستحقاقات السياسية، ولم يستطع تقديم أجوبة حتى للمسائل التي تهم النطاق الترابي لهذا الفاعل، فمسألة مشروع تقنين الكيف لم يتجاوز الصفحات الفيسبوكية والتجذرات اللفظية المرتهنة لمنطق انتخابي ضيق… ومسألة تعديل القاسم الانتخابي المتعلق بانتخابات مجلس النواب والجماعات الترابية لا يتجاوز “التشفي” الشخصي، فما بالك بالقضايا الكبرى التي تشغل مواطني المنطقة مثل تشغيل الشباب وفك العزلة والبحث عن النموذج التنموي الملائم للمشروع الترابي المنشود بالمنطقة…، فالخطاب السياسي الانشائي والحكواتي بين الاصدقاء السياسيين حول طاولات احتساء الشاي والقهوة لا يقدم القيمة المضافة، ولا يستطيع تجاوز تعبيرات بؤس المشهد السياسي الحزبي بمنطقتنا، كما بقية مناطق الوطن العميقة والمهمشة بفعل توالي السياسات العمومية الغير ناجعة، وبفعل توالي خطابات البؤس المتعاقبة والتي تصرف النقاش السياسي الحقيقي حول هذه السياسات الى نقاشات تحمل في طياتها نعرات قبلية ضيقة للحصول على اصوات بأسهل طريقة، أو نقاشات مدفوعة الاجر لتلميع صورة فلان وتشويه صورة علان… . ولأنه نقاش سائد، يصعب كشف أقنعته وحساباته الوهمية في الفضاء الازرق، ويعبر عن كثير من الانزياحات عن مفهوم الديمقراطية المحلية كتمرين ديمقراطي تشاركي. أصبح معه الفاعل الحزبي المحلي مطالب بتقديم الاجوبة المناسبة للمشاكل التدبيرية السائدة المرتبطة بالشأن العام المحلي والترافع على قضايا المواطنين الاساسية، ومن خلالها كسب أصوات هؤلاء الناخبين، واحتلال مكانة الوساطة عن جدارة واستحقاق، لا التسول أمام أبواب الادارات المحلية والحصول على المواقع والامتيازات عبر استجداء رجالاتها، أو الحصول على “امتياز” توزيع المساعدات الانسانية التي هي من صميم العمل الخيري الجمعوي والفردي التطوعي…، فكفانا خطابات بئيسة تتمسح بالديموقراطية قولا لكنها ترفضها فعلا وسلوكا، وتتلبس لبوسا سياسية هي أبعد عنها بعد السماء من الارض…فالواقع المحلي ومستجداته وتحولاته السوسيو اقتصادية في أمس الحاجة إلى فاعل حزبي محلي قوي، يدفع في اتجاه تخليق الحياة السياسية وممارستها بأدبياتها الحقيقية، وإعمال مبادئ المحاسبة والمساءلة المجتمعية، وانخراط التعبيرات المدنية المناضلة في التمرين الديمقراطي التشاركي كبناء مجتمعي دينامي، حتى يكون لأصوات الناخبين تأثيره الحقيقي في تدبير الشأن العام وفرز النخب المحلية الملهمة للمشروع الديمقراطي الحداثي محليا.