خالد الجامعي كما عرفته وكما لم أعرفه
حمادي الغاري
الحديث عن الزميل والصديق الصحفي الكبير خالد الجامعي، حديث ذو شجون ؛ حديث يمكن أن تبدأه من آخره كما من أوّله ،لأنك ستنتهي لنفس الخلاصات والخرجات من حديثك عليه.
لكن الحديث عن خالد الجامعي ليس بالسهولة التي يمكن أن تتبادر للذهن؛ حديث صعب ؛ حديث من نوع السهل الممتنع ..تماما مثل شخصه وشخصيته. فخالد سهلٌ إلى حدّ تُصَوِّرُه لك نفسك/شيطانك أنه يمكن أن تتجرّأ عليه وتتجاوز حدودك..لكن هذا الحديث يصبح من الصعوبة بمكان حتى وأنت تعرفه أو تزعم ذلك.
جمعتني بخالد زمالة بحُكم العمل. كان هو في جريدة “لوبينيون” (وليس “الرأي” كما يحلو للبعض أن يُترجم اسم عَلَم غير قابل للترجمة) ؛ وأنا في جريدة “العَلَم”. كانت الجريدتان ،التابعتان لحزب الاستقلال، في مقرهما التاريخي بشارع علال بن عبد الله منذ أن وضع جلال الملك الحسن الثاني حجر أساسها ،وهو ولي للعهد..قبل أن تمتد يدٌ أو أيدي آثمة وتنقل المقر إلى نهاية شارع الحسن الثاني، بطريق الدار البيضاء، بالرغم من غضب المحررين لهذا الإجراء الذي يمكن القول أنه كان في غاية التعسّف.. وكان وجود الجريدتين، في مقر واحد، يسهّل الالتقاء بين الزملاء سواء هنا أو هناك.لكن اللقاءات الحقيقية والحارة كانت بالخارج..هنا كنا نلتقي كأصدقاء أكثر من زملاء.
من اليمين:حمادي الغاري ،محمد المودني (مسيّر اللقاء) والراحل خالد الجامعي في ندوة حول الإعلام بدار الشباب،سيدي قاسم 1990.
الصداقة مع خالد ليست بالأمر الهيّن. يمكن أن تلتقي به والحديث معه لساعات وأيام، ولن يكون بإمكانك أن تدّعي أنك صديقه أو هو صديقك..لسبب بسيط هو أن فترة حديثك أو لقائك معه، لساعات وأيام، لا تسمح لك بالقول أنك تعرفه أو تعرّفتَ عليه جيدا، وبالتالي لا تُسعفك في معرفة خالد، لأن الرجل من النوع السهل الممتنع : في شخصه، في سلوكه، في أسلوبه،في حياته ..رجلٌ إذا شئتَ أن تتناغم معه بنفس النُّوطَة، لا بد أن تكون على عِلم ودراية بشخصه وشخصيته : هو شخص متواضع ـ نعم ـ لدرجة تجعلك ترى أنه سهْلُ المنال،لذلك فهو يتعامل مع جميع المواطنين من مختلف المستويات والطبقات ؛ لكن شخصيته لا يعرفها إلا مَن كان قريبا منه ؛ وتزداد تعرُّفاً عليها مِمَّن كان أقرب إليه.
عرفت خالد في لحظات هدوءه ووقاره كما عرفته في لحظات غضبه ونرفزته ؛ في لحظات حيويته وقوّته كما في لحظات نُكُوصِه وضعفه.. ويمكن أن أقول أن خالد هو خالد (egal à lui méme) في كل أطواره. لكن تميُّزَه أنه كانت له من الجرأة على قول الحقيقة، أو ما يعتبره كذلك، بدون لفٍّ أو دوران،مع قدرة كبيرة على تفسير أو تبرير موقفه تفسيرا أو تبريرا عقلانيا..
مع هذا الرجل،الأستاذ، الصديق،الصحفي،السياسي،الاجتماعي،الفنان..كانت لنا لقاءات (الكاريكاتوريست العربي الصّبّان، الصحفي بوشعيب الضبّار وأنا) مساء كل يوم في مقهى نهرب بأنفسنا إليها؛ نختلي فيها مع بعضنا في أحاديث إعلامية، ثقافية،سياسية…لا أوّل لها ولا آخر..لا نريدها أن تنتهي .. إلى أن ينبّهنا النادل أو صاحب المقهى ،أنه حان وقت الإغلاق..لنكمِّل حديثنا وسجالنا في الطريق..إلى أن نفترق، ..مع اللقاء في نفس الموعد والمكان…وهكذا إلى أن فرّقت بيننا الأيام، وذهب كلٌّ منا إلى غايته..
كان خالد يجادل ويناقش بدون ملل ولا تعب ولا ضحر..يدافع عن رأيه وموقفه ويعمل جاهدا على إقناعك..ومع أننا كنا نختلف في بعض القضايا السياسية أو الثقافية أو العامة ..إلا أن صداقتنا كانت هي السياج، بل صمّام الأمان الذي يحمينا من السقوط في المطبات..أو النزاعات..
ما كان يثيرني في أمر خالد، حتى وهو يشتغل في جريدة “لوبينيون”، التابعة لحزب الاستقلال، هو انتخابه في أحد مؤتمرات الحزب عضوا في لجنته التنفيذية ،أي قياديا، لأنني أعرف أن عضويته في قيادة الحزب تفرض عليه ترؤُّس اجتماعات ومهرجانات ذات طابع حزبي؛ وأنّ عليه أن يتقيّد ـ إلى حدٍّ ما ـ بأدبيات الحزب وتصوراته وسياسته …لكني في نفس الوقت أعرف أن خالد لن يرتاح إلا حين يتكلم أو يخاطب الجمهور بما يراه هو، ويفكر فيه هو، ويتصوّره هو..وحين أقول هذا لأنني أُدرك جيدا أنه ليس هناك جُبَّة حزب ـ حتى ولو كان حزباً تقدُّميا ـ يمكن أن تلْبَسَ خالد..فخالد لا يمكن أن يتصوّر ويُطيق أنه في قفصٍ حزبي..
حين تريد أن تستمتع بخالد يكون ذلك في محاضرة أو لقاء لجمعية من الجمعيات، حيث يتحرّر من كل القيود والتحفظات؛ لأنه بكل بساطة يحب أن يغرّد خارج المذهب الدوغمائي ،الجامد والمتحجِّر للحزب. وسأتأكد من ذلك لمّا دعتنا ـ هو وأنا ـ جمعية ثقافية بسيدي قاسم ،في بداية التسعينيات، في لقاء حول الإعلام وحقوق الإنسان..كانت قاعة دار الشباب غاصة بالجمهور من مختلف الأعمار والأوساط… وكان خالد في أوْج عطائه..
لذلك كنت أنتظر اليوم الذي سيغادر فيه حزب الاستقلال..ولعلّ ما كان يشدّه للحزب هو شخص وشخصية أمينه العام آنذاك،الأستاذ امحمد بوستة الذي وجده خالد بجانبه في نزاعه مع وزير الداخلية والإعلام ،ادريس البصري..وهو ما وقع..فغادر خالد الحزب بما حمل.. ولن أنسى تردُّد بوستة على “العلَم” ،بل أحيانا كان يطرق باب رئيس التحرير ،الراحل الأستاذ عبد الجبار السحيمي، وحين يجدنا في اجتماع، يقول “أعتذر..أعانكم الله..” ويهمُّ بالرجوع من حيث أتى،قبل أن يقوم السحيمي ويأخذ بيده.. ويجلس معنا بوستة،الأمين العام للاستقلال ووزير خارجية المغرب ..بكل تواضع..ونحن نتداول في عدد الغد ..كان بوستة هو الأمين العام الوحيد لحزب الاستقلال الذي كان دائم التردّد على الجريدة ،في حين أن الأمناء الذين أتوا بعده (عباس الفاسي ،حميد شباط..) لم يكونوا يعرفون حتى أين توجد جريدة “العلَم”..فبالأحرى أن يتعرفوا على صحفييِها…ويُجالسُوهم…
خالد الجامعي ..كما أعرفه ..إنسان
خالد الجامعي..كما لم أعرفه…إنسان.
++++++++++++
(+) صورة لعمودي بجريدة “العلَم” يوم 04 دجنبر 2004 حول نزاعه الشهير مع ادريس البصري.