ثقافيةسياسية

في أيّ عالم …مجنون نعيش..؟؟

 

حمادي الغاري

 

أجمل ما استوقفني وشدّني إليه شدّاً ، ما قرأتُ للكاتب والصحفي الأمريكي “بيل كيلير” (1) ـ Bill Keller ـ  عن مفهوم الانتهازية والحربائية من أجل قضاء المصالح، في شكل حوار مع ابنه، ضمن زاوية ” في أيّ عالَم نعيش؟”.

نعم. لنتأمّل في أيّ عالَم نعيش.

 

بيل كيلير

 

قلتُ لولدي :”ستتزوّج بالفتاة التي اخترتها لك “.

قال: “لا”.

قلت له :” إنها بنت بيل غيتس”. (2)

قال: ” أوكي”.

 هاتفتُ بيل غيتس وقلت له: “أريد أن تُزوّج بنتك بإبني”.

رد بيل غيتس:” لا”.

قلتُ لبيل غيتس:”إن ابني هو الرئيس المدير العام للبنك الدولي”.

أجاب بيل غيتس :”أوكي”.

اتصلت برئيس البنك الدولي وقلت له أن يجعل ابني هو الرئيس المدير العام للبنك الدولي.

قال :”لا”.

قلت له :”إن ابني هو صهر بيل غيتس”.

قال :”أوكي”.

بهذه الطريقة يتم التعامل في مجال السياسة.

معنى هذا ،باختصار، أن كل الأمور في المجال السياسي ، كيفما كانت طبيعتها، صعبة أو معقَّدة، تتم معالجتها بواسطة الإغراء أو الضغط عن طريق المصالح….، وبالهدوء والدم البارد..

يتضّح هذا من خلال عرْض الأب على ابنه الزواج، لكن الإبن رفض عرْض الأب . وحين قال له إنها بنت “بيل غيتس”، لم يتردد في الموافقة.

اتصل الأب ببيل غيتس يطلب منه تزويج بنته لإبنه ،رفض..وسرعان ما رحّب بالعرض حين أخبره الأب أن ابنه هو الرئيس المدير العام للبنك الدولي. اتّصل الأب برئيس البنك طالباً منه أن يجعل ابنه مسؤولا في البنك.لكنه رفض؛ وحين سيخبره بأن ابنه هو صهر بيل غيتس، لم يتردد في الموافقة…

هكذا هي السياسة: عالَم فظيع من الْحِيَل، الكذب، الادّعاء، الضغط، التهديد،التخويف، التآمر..مجال رحْب .. بل غابة يجوز فيها استعمال كل الطرق ..للانقضاض على الفريسة ..وقضاء مصلحة ما لتحقيق هدف ما.

أما البراءة ،المعقول ،الجِدّيَة، الاستقامة ،النزاهة …وما جاورها ،فلا علاقة لها ،من قريب أو من بعيد، بمجال الضرب الدقيق والتسديد الصارم والقاتِل .. هذا الأسلوب من جنس المصالح وقضاء المآرب،ليس بالكتمان بل بالمؤامرات التي قد تصل إلى ما لا تُحمد عُقباه من اعتقال وتعسّف وإذلال وتخوين …إلى الاغتيال..

هنا،المجال فسيح ورحْبٌ لكل ما هو غير أخلاقي . لا وجود هنا لرائحة النزاهة والاستقامة..بل الأسلوب الطاغى والسائد والمطلوب، هو التطبيق السليم والتنفيذ الأمثل  والدقيق لمقولة : “الغاية تبرّر الوسيلة”، بكل الدِّقّة والعناية المطلوبتين في مثل هذه الحالة.

وحين يتم رسْمُ وتحديد الغاية /الهدف لتحقيق عملية ذات أهداف ومصالح سياسية، أو اقتصادية، أو مالية، وغيرها ،فإن كل الطرق تؤدي إلى روما..كما يقال. لا مجال مُطلقاً للقِيَم والأخلاق ،ولا للعاطفة و”الكَبْدَة لَهْشِيشَة” كما يُقال. بل تحديد الغاية بدقة وتنفيذ عملية تحقيقها بعناية فائقة ،وبأسلوب “حسِّي مسِّي” الذي لا يثير غُبارا ولا زوبعة..

حكاية بسيطة ورائعة، عن واقع آخر .. لا نعرف عنه ،نحن المنحدرون من  العالَم الآخر، الغارق في أوحال التخلف والتّيه ..أيّ شيء.. 

ذاك واقع أو عالَمٌ له مفكِّرُوه العباقرة، ومنظِّروه الحاذقون ، ورجاله البارعون، من العصابة المتخصصة في تنفيذ العمليات المطلوبة،بدَمٍ جامد وليس بارد، وعدم ترْك أيّ آثار للجريمة التي من شأنها أن تثير مشاكل …

هذه الحكاية على بساطتها، تعطي درسا عمليا، مرَكّزاً ودقيقا، بالمختصر المفيد، في كيفية الحصول على مصالح معينة بالطريقة المناسِبة ..كانت بالكذب أو الخداع أو المكر..لا يهم. المهم ..تحقيق الغاية المنشودة .

حقّاً ..إنه عالَمنا المجنون كما قال الفيلسوف البريطاني جون برتراند روسل.

+++++++++++++

(1) بيل كيلير: صحفي  وكاتب أمريكي شهير، أشرف على رئاسة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز” المعروفة (2003 إلى 2011)؛ كما كان رئيس التحرير المؤسِّس لمشروع مارشال، وهي منظمة غير ربحية تقدم تقارير عن العدالة الجنائية في الولايات المتحدة . عضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم (American Academy of Arts & Sciences) ، التي تُعتبر واحدة من أقدم وأعرق الجمعيات الأمريكية.

(2) بيل غيتس ..الرجل الذي يتحكّم في مجال المعلوماتيات. مقاول  ورجل أعمال كبير وملياردير أمريكي؛ مؤسِّس شركة ميكروسوفت”(Microsoft) العالمية سنة 1975؛ وهي المقاولة الضخمة التي تسيطر وتهيمن على الفضاء المعلوماتي الأنترنيتي في العالم ..

 

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button