
أنبوب غاز
سمير بنيس
حينما قامت الجزائر بوقف العمل بأنبوب الغاز، الذي يربطها بإسبانيا والبرتغال عبر المغرب، فإنها ارتكبت خطأ جسيما؛ وكان هذا القرار بمثابة رصاصة الرحمة لكل طموحاتها في منع المغرب من تحقيق اختراق كبير في حماية وحدته الترابية؛ كما كان هدية ربّانية من الجزائر للمغرب، حيث أن هذا القرار قلّل من اعتماد إسبانيا على الغاز الطبيعي الجزائري، علماً أن الغاز، الذي كان يمر من المغرب، لم يكن يمثل سوى 20 في المائة من الغاز الذي تستورده إسبانيا من الجزائر.
وقد أثبت هذا القرار للمسؤولين في الدولة الإسبانية أن الجزائر لم تعد دولة جديرة بالثقة، ولا يمكن الإعتماد عليها للإستجابة لاحتياجات السوق الإسبانية من الغاز. وبسبب رعونة و غباء جنرالات الجزائر، انخفضت واردات إسبانيا من الغاز الجزائري، من 45 في المائة قبل بضعة شهور، إلى 23 في المائة في نهاية الشهر الماضي؛ ولم تعد إسبانيا هي أول مورد للغاز لإسبانيا، بل الولايات المتحدة الأمريكية التي مدت إسبانيا بما يقارب 39 من احتياجاتها من الغاز، حسب إحصائيات شهر فبراير2022.
تبيّن من خلال تعامل إسبانيا مع ملف الغاز الجزائري، أن الدولة الإسبانية قد تعاملت مع هذا الملف بشكل استباقي منذ عدة سنوات، حيث قامت ببناء بنية تحتية جد متطورة في تخزين و تحويل الغاز المسال، مما جعلها من بين أكثر الدول الأوربية تطوراً من حيث البنية التحتية في هذا المجال. ولنعرف الأهمية التي كانت يكتسيها الغاز الجزائري بالنسبة لإسبانيا، فإنه كان يمثل 60 % في استهلاك إسبانيا في بداية الHلفية.
ولعل هذا التعامل الإستباقي، وبُعد النظر الإسباني، هو الذي ساعد مدريد على تجاوز الآثار المدمرة التي كان للقرار الصبياني لأطفال نظام الجزائر إلحاقها بالإقتصاد الاسباني. وبسبب القرار الأرعن للنظام الجزائري، وقْف العمل بأنبوب الغاز، الذي كان يمر عبر المغرب – والذي كان الهدف منه هو معاقبة و إلحاق الأذى باقتصاده- والبنية التحتية جد المتطورة التي تمتلكها إسبانيا، ستتكمن هذه الأخيرة، في آخر المطاف، من التقليل من تأثير الجزائر على اقتصادها، ومن إضعاف ورقة الغاز التي ظل النظام الجزائري يستعملها لمدة خمسة عقود، للضغط على إسبانيا، وثنيها عن دعم مغربية الصحراء.
لعل هذه التحولات هي التي دفعت إسبانيا، لأول مرة، إلى التعبير، بشكل واضح، عن دعم المغرب، وبالتالي وضْع حد لسياسة أخذ العصى من الوسط (أو equidistance) التي نهجتها إسبانيا خلال العقود الماضية للحفاظ على مصالحها. وإسبانيا تعلم أنه باستثناء الغاز، فإن شراكتها مع الجزائر شبه منعدمة، كما أن ميزان الأداء التجاري كان دائما لصالح الجزائر، بالمقارنة مع المصالح الكثيفة والمتعددة التي تجمع إسبانيا مع المغرب، سواء تعلق الأمر بالجانب الإقتصادي و التجاري ،أو بالجانب الأمني ،والمصير المشترك، بحُكم القرب الجغرافي.
علينا ألاّ ننسى أن هناك أكثر من 1000 شركة إسبانية تعمل في المغرب، وأن إسبانيا أصبحت هي الشريك الإقتصادي رقم واحد للمغرب؛ وأن المبادلات التجارية بين البلدين، تخلق دائما فائضاً إيجابيا بالنسبة لها.
وعلى عكس ما يظنه البعض وما تقوله بعض الصحف الإسبانية، فإن هامش مناورة الجزائر، أصبح منعدماً، ولن يكون بإمكانها اتخاذ أي قرار عقابي ضد إسبانيا. وكل من يظن أن بإمكان الجزائر أن تُوقف تدفُّق الغاز لإسبانيا، فهو يُجانِب الصواب.
نعلم أن عقود الغاز تكون عقودا طويلة الأمد على مدى سنوات وعقود، على عكس العقود المرتبطة بالنفط التي تكون في الغالب عقودا قصيرة الأمد. فالجزائر مرتبطة مع إسبانيا بالإتفاق الذي وقعته مع هذه الأخيرة عام 2018 ، بخصوص أنبوب “ميدغاز”، الذي يربط مدينة بني ساف الجزائرية بمدينة ألمرية الاسبانية؛ وتمتد صلاحية هذا الاتفاق إلى غاية عام 2030.
ولن يكون بإمكان الجزائر وقف الغاز لإسبانيا، ولا حتى مراجعة شروطه المالية، وأقْلَمَتها مع الارتفاع الحالي لأسعار الغاز. وفي حال قامت بذلك- ولن تقوم بذلك- فإنها ستخالف القانون الدولي الذي يؤطر هذه العقود بين الدول؛ كما أنها ،في هذا السيناريو المستبعد جداً، ستكون عرضة للضغط من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، التي تعمل، بشكل مضنٍ منذ شهور، على تقليل اعتماد الاتحاد الأوربي على الغاز الروسي.
كما أن أنبوب الغاز “ميدغاز” مملوك بنسبة 51 في المائة من طرف شركة “سوناتراك” الجزائرية، بينما تتقاسم شركة “ناتورجي” الإسبانية، وشركة “بلاكروك” الأمريكية 49 في المائة المتبقية؛ و بالتالي، ففي حال قامت الجزائر بأي خطوة انتقامية ضد إسبانيا، فإنها ستكون في مواجهة مباشرة أمام الولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة القول أن الجزائر، بِفِعْل الحقد الأعمى لنظامها، وغياب أي تصوّر استراتيجي لديه، قدمت إسبانيا للمغرب فوق طبق من ذهب ؛ وحققت لهذا الأخير(المغرب) ما كان يتمناه منذ عقود. وما هذا إلا عقاب ربّاني لهذا النظام الغاشم الخائن، على خياناته المتكررة للمغرب، وعلى جحوده، وعلى عمله لستة عقود على خدمة المنظومة الاستعمارية، عوض مد يده للمغرب، للتعاون من أجل بناء اتحاد مغاربي يخدم مصالح شعوب المنطقة ،ويجعل من دولها قوة إقليمية، قادرة على لعب الدور الذي يليق بها وبتاريخها، على المستوى الإقليمي والدولي، وعلى التحدث بصوت واحد في المحافل الدولية.
إن الخطوة التي أقدمت عليها إسبانيا، ذات مغزى سياسي وسيكولوجي، أكثر من أهمية الإعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء – الذي بالمناسبة أصبح السياسة الرسمية للولايات المتحدة أحَبَّ من أحب وكَرِه من كره- وبدون شك ستشكّل صدمة قوية للنظام الجزائري، لأن إسبانيا هي البلد الذي كانت يحتل الصحراء المغربية، وهو البلد الذي تواطأت معه الجزائر، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، للحيلولة دون تمكُّن المغرب من استكمال وحدته الترابية.
بعد مرور خمسين سنة، استطاع المغرب، في آخر المطاف، تفكيك محور الجزائر-مدريد، الذي عمل، في الخفاء، لمعاكسة المغرب. كما أن لإسبانيا كلمة و نفوذا سياسيا وثقافيا في دول أمريكا اللاتينية، ولا شك أن تموقعها الجديد سيؤثر على تموقع العديد من دول تلك المنطقة.