حمادي الغاري
المغرب في المونديال، والمغرب الذي في مونديال قطر 2022، هو مغرب المونديال ..
أقول / نقول/ هذا بمِلْءِ الفم، ومن أعماق القلب، وبكل الوعي والاقتناع، ليس لأننا مغاربة ،بل لأن هذا ما سمعناه وشاهدناه وقرأناه ولمسناه عبر مختلف القنوات والشخصيات من مختلف الجنسيات، من إخوتنا في أفريقيا، وأشقّائنا في الوطن العربي والإسلامي، ومن مختلف الناس في مختلف ربوع العالم.. وهي اعترافات تقدير واحترام لمنتخب “أُسُود الأطلس” المغربي، لم تجتمع على ضلال، بل على بَيِّنَة من الأمر، لأن زئير الأُسُود تردّد صداه في مختلف القارات.. زئيرٌ أسْمَعَ مَن به صَمَمٌ أنّ مغرب المونديال في … المونديال. والدليل تردُّد اسم المغرب، ومنتخب المغرب، وأُسُود الأطلس، من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها،بمحتلف اللغات واللهجات ..
المغرب هو …المغرب في أصالته وعراقته وحضارته، المتوارثة عبر حِقب وأجيال وعصور؛ وقد نجح أبناؤه،اليوم، من ساحة مونديال قطَر، في تقديمها والتعبير عنها من خلال عدة رسائل: تتمثَّل الرسالة الأولى في التواضُع، والتواضع من شيَم الكبار. وبالرغم من فوز “أسُود الأطلس” البيِّن والواضح، أداءً ونتيجة،لم يغتروا ويفتخروا..بل احتفظوا بأقدامهم على الأرض كما يقول المثَل .. وشَقَّ المنتخَب المغربي طريقه بكل ثقة وإصرار وإيمان، مما جعله يكون البلد الأفريقي والعربي والإسلامي الوحيد الذي يكسِّر حاجز الصمت، ويتبَوَّأ مكانه بين الأربعة الكبار في المربّع الذهبي للمونديال،مع الأرجنتين، كرواتيا وفرنسا؛ وهذا لن يأتّى لأيٍّ كان، بل للكبار فقط . الكبار المتواضعون.
المنتخب المغربي… منتخب الساجدين
تكمن الرسالة الثانية في الاحترام، حيث قدّم المغرب، من خلال أُسوده الأطلسية، نموذجا راقيا في التعامل مع جميع الفرق التي واجهها بالْجدِّية المطلوبة مع النُّبل والاحترام، مما جعل مسؤولي وأعضاء المنتخبات المتنافسة يعترفون لمنتخب الأُسُود بهذه الفضيلة؛ وهي فضيلة لا تُباع ولا تُشترى، ولو بمِلْء الأرض ذهبا.. في سُوق القيَم ،أعني بها سوق القيَم المادية الغربية.. التي تحتقر الإنسان وتعتبره أقل،بل أتفه، من الدولار والجنيه والْيِّن والفرنك..ولا يُساوي بصلة.
الرسالة الثالثة ،وهي الأهم والأجمل، تتجلّى في تلك الصور التي تسابقت مختلف وسائل الإعلام من أجل نقلها لمختلف الشعوب والأمم، صور لاعبي المغربي وهم يتوجَّهُون،مباشرة بعد نهاية المباراة، نحو أمهاتهم،في المدَرّجات، يعانقوهن،يقَبّلن رِؤوسهن وأيديهن .. يُشْركٌونهن في فرحة الفوز..كل لاعب يضم إليه أمّه بكل حنان وحب… مشهد رائع ومؤثّر قلّ نظيره في عالَم يعجُّ بمظاهر الزَّيْف،والغرور،والنفاق، والاِدّعاء، والاستعلاء والاستكبار… جعل الكثير من الأجانب يفتحون عيونهم وأفواههم، تعجُّبا وإعجاباً واندهاشا لهذا السلوك الذي لم يأْلفُوه ولا يعرفوه فبالأحرى أن يعيشوه.. وقد أحسن مسؤولو الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم حين بادروا بإلحاق آباء وأمهات وزوجات لاعبي المنتخب بهم في قطر..
الركراكي،بوفال،حكيمي، زياش، الصابيري وبونو مع أمهاتهم
هذا السلوك إنْ كان يبدو عاديا في طقوسه وشكله ،فهو أعمق وأعظم، لأن أخشى ما يخشاه المغربي إغضاب الوالدين أو الإساءة إليهما ،فما بالك بالتنكُّر لهما أو لأحدهما. من هنا يأتي مفهوم رِضا الوالدين الذي يصل إلى حدّ القداسة. مفهوم لن يُدرك معناه وأبعاده إلا مَن حظي برضا الوالدين ؛ لذلك يقول مثَل مغربي :” الرْضَا من الوالدين، والسَّخط من الوالدين”. “فِينْك آمسخوط الوالدين…؟؟”
إنه المغربي الذي يقبّل أيدي والديه ورأسهما ..بل حتى قدميهما. إِييييهْ .. ويقبّل يد أو رأس أو صدر فقيهه، ومعلّمه، وخاله وعمّه ،وجاره …وملِكه… وهو سلوك يدل على الاحترام والتبجيل والتوْقير ..دأبَ عليه المغاربة منذ غابر الأزمان …؛ يُترجم فقط مدى الاحترام والتقدير الذي يكنُّه الصغير للكبير، وليس فيه أيّ احتقار أو مهانة أو استصغار.. وغير قابِل للتأويل …
ماذا يدل هذا ؟ يدل على حُسن النِّيَّة، وهو العنصر الأهم من بين العناصر المذكورة. إن حُسن النية خصلة تابثة في سلوك المغاربة ؛ كل فِعل أو أمْر لا يمكن أن يتم بانعدام عنصر النِّية. وهو العنصر الذي تجده كامناً في كل فعل أو عمل يُقْدم عليه المواطن المغربي؛ توارَثَه أجيال وأجيال ،خلَفاً عن سلَف؛ وأصبح ثقافة سائدة ،قولاً وفعلا . يتجلّى ذلك في مختلف شؤون الحياة ؛ وهناك مقولة مغربية أصيلة تقول ” الزواج بالنية”، “الحرث بالنية” .. أي أنه لا بد من وجود عنصر “النية” في أيّ عمل يُراد أو ينْوِي القيام به … لكي يكون ناجحا.. وفي الموروث الثقافي الشعبي المغربي مقولة شائعة : “دِيرْ النّية ونْعَسْ مع الحيَّة”، بمعنى أن النيّة الصالحة ،الخالصة ،تهزم الشر.
إن المغرب من الدول، النادرة في عالَم اليوم، التي تمتد جذور وجوده إلى قرون وقرون …مما يجعله محطّ أنظار و… أحقاد..إنْ لم نقل مؤامرات لا يمكن إنكارها والتستُّر عليها بادّعاءات جوفاء وشعارات خرقاء وابتسامات صفراء ؛ بل إن المغرب من الدول النادرة التي تكالبت عليها قوى الاستعمار، وليس قوة واحدة ،مما جعله مستهدَفاً، في كيانه ووحدته، طيلة تاريخه الطويل. والمعارك التي خاضها مع مختلف القوى الأجنبية دليل على استهداف استقلاله ووحدته وحريته وكرامته..بل وجوده…
تبقى الرسالة الأعظم: السجود للباري عزّ وجلّ .. سجود أُسُود الأطلس: اللاعبون، المدرّب والطاقم التقني.. عقب كل مباراة، لله وحده الواحد الصمد. ولعل هذه الصورة اللافتة والرائعة هي التي جعلت العالَم الآخر الذي لا يرى فينا، وفي ديننا وثقافتنا وتقاليدنا.. إلا الأسوأ والسلبي، ينبهر ويندهش ،وقد يسخر ويستهزئ، لأنه يجهل مدى ما يربط المغاربة ،أينما كانوا وأينما وُلِدوا وترعرعوا، بدِينهم ووطنهم وقيَمهم وأصالتهم.. ولأن هذا الأجنبي لا يعرف أيضا أن المغربي يبقى مغربيا ولو وُلِد وترعرع وتعلّم وبرز.. في المرّيخ؛ وأن المغربي يبقى مرتبطا ببلده ولو ظل يعيش خارجه…وهذا إحساس موجود في جينات المغربي ..
إنه مغرب الساجدين، مغرب الأخيار الكرام، وأولياء الله الصالحين ،الحاملين المحافظين والحافظين لكتاب الله في الصدور، يُرَتّلُون سُوَرَه وأحزابه،كل يوم، قبل طلوع الشمس وعند غروبها، في الْغُدُوِّ والآصال، في جميع مساجد وزوايا المغرب…
هنا يكمن سرّ المغرب الذي لا يدركه إلا أولياء الله .. ومَرْضِيُو الوالدين .. المغاربة الساجدون…