أفكار تحت الرماد.. إلى متى؟
هناء مهدي
كثيرة هي الأفكار التي نسطرها ولا يكتب لها الخلود، رغم بلاغتها.. رغم قدرتها على البوح بالمكنون، رغم رغبتنا في ترجمة دواخلنا المتعبة علنا.. رغم إعجابنا بمضمونها الفريد، و رسائلها الفصيحة أو تعابيرها الجميلة.. نحتفظ بها باطن صندوق أسرارنا، طي مفكرات لا يكتب لها الوجود.. لا نجازف أبدا بإشهارها للعالم، ولا حتى بنشرها على صفحاتنا الشخصية ب”الفايسبوك.”.
نحجم عن التعبير.. مع أننا نعلم، يقينا، أن ما نسطره قد يكون ذا معنى يفيد.. قد يداعب أفكارا تسير على نفس الإيقاع.. أو يلامس قلوبا تنبض بنفس الهوى.. قد نترجم بكتابتنا رغبة الكثيرين في التمرد.. قد نخلق أفكارا تؤسس لرأي مخالف يستحسن، وقد نكتب مالا يقبل بالإجماع.. ندرك يقينا أن نشر غسيلنا، وإن كان موضوعه شريفا.. يجوز وراء الضفاف. بينما في هذا البلد الأمين.. قد يخلق لنا من الانتقاص والانتقاد والتجريح، مالن يخلقه أبدا من التأييد!
نعاني في صمت من مصادرة هواءنا.. حرية أفكارنا… جرأة قرارنا.. فصاحة أقلامنا..
طالبنا برفع القيد عن الحقوق الإنسانية المغتصبة.. التمسنا كثيرا من الحقوق ومزيدا من الحريات.. فألفينا أنفسنا نصارع التيه و نخطئ الوجهة.. كان الأصح أن يصدر احتجاجنا بعد روية وتبصر.. أن لا نغرد حتى نضبط الإيقاع.. ولا نشهر الصور حتى تكتمل المشاهد، بكل جزئياتها الصغيرة جدا…
خلصنا ،بعد تيه، إلى أن مصادرة الحريات لا تأتي دائما من فوق.. إنها كالريح قد تعصف بك من الشمال أو من اليمين.. من الشرق أو من الغرب.. وقد تجهز عليك من كل الجهات الأربع او الخمس، دفعة واحدة..
بمرراة ، كشفنا أن من يصادر حرياتنا بعنف لا يلين.. ليسوا إلا أناسا من بني جلدتنا… من بني حينا الشعبي الفقير.. مِمَّن لهم سلطان علينا أكبر من السلطان نفسه. سيل جارف إذا أصابك وبيله لامنجاة لك من بطشه.
أولئك، يملكون سلطة تحريك المسطرة القضائية ضدنا.. يملكون سلطة التجريم والعقاب.. سلطة مصادرة انتمائنا الوطني، سلطة تدنيس شريعة أفكارنا..سلطة قمع لغة مشاعرنا.. وسلطة إسكات همس أحلامنا البريئة…
وعليه،حكمت محكمتهم ،حضوريا وغيابيا، علينا أن نتبع الطابور نفسه، أو نصمت صمتا مطبقا.. أن نعزف نفس الملحون.. نرقص على نفس الإيقاع “رقصة الديك المذبوح”، أو نموت موتا هادئا. من دون كفن ولاجدث.. ولا مجلس عزاء لائق!
هل يقدر قادر منا على التمرد عن سلط مرئية مخفية؟ ..على شراك قضاء مجتمع لايرحم؟
هل يقدر قادر على تلافي وبيل عاصفة عصفت.. و يدرأ بائقة تأتي على أخضر زرعه ويابسه؟
لن ينجيك منها أحد لو تمردت يا “غلام”! ..فكثير ممن يوافقونك الرأي لا يملكون لك التأييد.. فكل بات اليوم يخاف منهم.. على ليلاه!
مرغمون إذن، على اتباع نواميس لاتبنى على أساس علمي ولا منطق عقلي.. قداستها تجاوزت قداسة القرآن! وهل نملك أن نقول لبني جلدتنا، لهذا المجتمع العنيد.. قول أم كلثوم: “أعطني حريتي.. أطلق يدي.. إنني أعطيت ما استبقيت شيئا”؟!
كيف إذن نحمل مشعل الحريات في مواجهة السلطات.. وأفكارنا تُصَادر قبل مخاضها من طرف سلطات أكثر شراسة وخبثا؟ وقضاة مجتمع يرددون نفس القاعدة الفقهية المسطورة في أذهان مجتمع لايفكر!: “اتباع مسلك الجماعة، أو.. هلاك لا مندوحة عنه”!
يصنعون منا أجسادا فارغة العقل والهوى.. على قياس رغباتهم الآثمة!
وقياسا على ذلك، تبدو القيود القانونية على حرية التعبير و كل الخطوط الحمراء التي انتقدناها.. أخف وطئا أو أقل ضيرا من قيود سجان يساكننا ليل نهار.. يفرغ من الحياة أرواحنا، يُدَوِزِن بإيقاعه أفكارنا، ويضبط نبضات قلوبنا كما تشتهي سطوته.. يملي علينا لائحة ترصد الواجب والممنوع؛ من نهوى ومن نكره، ما نأكل وما نشرب، ما نلبس وما نخلع.. يبرمجنا ك”الرُّوبُو” .. وكأننا لسنا كائنا لغويا عاقلا!
تحضرني خاطرة خطرت لي قبل عام.. حين قررت أن أفشي عنوة رأيي المخالف بجرأة متناهية.. وجدتني بعدها حديث الصفحات على “الفايسبوك”. وقد نلت من الشهرة ما لم أحلم به يوما.. بصورتي المشطوبة بالأحمر القاني ..مدبجة بكل الشتائم و السباب! مكالة بتهم لم تخطر لي على بال! ومنها ما استهل بالخيانة وختم ب.. خدمة أجندات سياسية!
المشكل الأساس فيما يفعلون لا يختصر في حجم التهم الكاذبة، ولا في لغة السب والشتم، و لا في كل الكلام النابي الذي يتخلل تعاليق القراء.. المشكل الذي ينوء عن حمله العقل الراجح، هو ما يسير عليه إعلامنا الذي يتبع الموج مدا وجزرا، ويبرمج نفسه على القناة إياها.. فيتم بذلك استنساخ رأي واحد يحكم كل الرأي العام في هذا الوطن العزيز.. نكون جميعنا حياله “كورسا” يردد الآهات خلف المطرب الواحد!
مع أن “الخطر الرئيس في العصر الحالي هو قلة من يجرؤون على أن يكونوا مختلفين” وهو ما خلص إليه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل أسفا ونردده نحن بأسف أكبر؛ وقد بتنا نخالف الفطرة الإنسانية التي جبلنا عليها. شاء الله أن يجعل لكل منا نبضا.. وشاؤوا أن يجعلونا جميعا على نبض واحد. مع أن الاختلاف الذي يحاربونه بشراسة يسهم في الغنى والتنوع، يترجم الرأي الآخر الذي قد يفيد.. والذي قد يسهم في إجلاء كثير من المبهمات والصور!
وجاءت الصحافة والإعلام لتنوير الرأي العام، لخلق التعددية الفكرية الرشيدة. لكن بعضا من أصحابها عندنا.. اختاروا أن يتأسوا بالغراب في مشية الحمام! ففقدوا هويتهم بالكامل ، ف “لا عادوا غربانا ولا صاروا حماما”!
مقالك راءع جدا اختصر فلسفتين تشبع بهما الثراث الفلسفي الاولى فلسفة الحرية التي نظرت لها حان ارنديت وفلسفة الاختلاف التي نظر لها جاك ديريدا . انهما فلسفتان نستمتع بهما بلذة عقلية داءمة . ولكن عندما نريده ان انمارسهما على ارض الواقع نعيش الما وبؤسا وتعاسة . برافو عليك الاستاذة هناء مهدي .
هنيئا لك هناء وتحية وتقدير لك أختي على كلماتك وأسلوبك الذى ﻻ أجده إﻻ في كتب أسماء أصحابها ﻻ يدكرها إلا التاريخ أما عن المضمون أصبحنا إﻻ قطيع يحركونه كما يشاءون و من يريد تصحيح المسار يجد نفسه خارجامتهما بأفعال ﻻتقدر على حملها الجبال.
أسلوبك رائع وجميل وأطلب منك الكتابة في الموضوع في كتب كبيرة لتوعية وتتقيف ونصح و إرشاد وتنوير هدا الجيل
إن أكبر معاناتنا ان نبقى أسرى ثقافة القطيع القائمة على الخضوع والإتباع،
لاغية كل طرق الاختلاف ؛ داعية الى المشابهة ؛ ونبد الراي المشاكس؛
ههنا يكون الصوت الواحد والوحيد هو المهيمن ، لا صوت غيره ، ولاهيمنة
سواه.
ان شريعة الاختلاف ملعونة ومنبوذة في مجتمع يسيطر عليه أولو الغنيمة
وأسياد القبيلة ، بترسانة من زعمهم حتى يخضعوا رقاب الخلق لهم ليا
لأعناق المعارضين؛ و درءا لكل صوت لا يستقيم ونكهتهم في التأويل.
شكرا لهذه الرؤية الجميلة تحليلا و تجذيرا لاختلاف عقلاني سليم.
أصبتِ كبد الحقيقة يا عزيزتي – كما يقال – في اشارتك الى هؤلاء الذين يفرضون أنفسهم على الآخرين حماةً لسلطة أو لعقيدة أو لاتجاه ما فكري أو اجتماعي، فيمارسون ارهابا بالتجريم والاتهام وأقلها باللفظ النابي على كل من يختلف معهم، أو يتوهمون فيهم انهم معارضون لما يعتقدون، فلا يدَعون للحرية الإنسانية فضاءً تتنفسه. حقا يا عزيزتي الكاتبة هناء، أن هؤلاء أشد ايذاءً من اية سلطة غاشمة، لأنهم هم من يدفعها إلى الاضطهاد ويحرضها على تضييق فضاءات الحرية. إنهم المنافقون نفسهم الذين جعلهم الله تعالى مع المشركين والكفار في سواء الجحيم. بوركتِ ولكِ المحبة.