“السُّوشل ميديا” والاستحواذ الفظيع على العقول..
هناء مهدي
لا يخفى على أحد أن أحدث صيحات الموضة الإعلامية في العصر الراهن، هي وسائل التواصل الاجتماعي “السوشل ميديا”، التي أحرزت قصب السبق بالاكتساح اللافت لقنواتها للسوق الإعلامية، لدرجة أصبحت مرجعا جديدا يفرض نفسه بقوة على المتلقي؛ وهو سِبق أكدته وتؤكده في كل لحظة، الأرقام التي سجلتها عدد “اللايكات” ونسب المشاهدة.
هل يُشكِّل هذا السبق والزحف المثيرـ حقّاً ـ لهذه الوسائل التواصلية الجديدة ، تهديدا آنيا ، وخطيرا، للقنوات الإعلامية والصحافة بكل أجناسها وأنواعها.. عِلْماً أن الأبطال الذين تصنعهم “السوشل ميديا”، يصلون إلى النجومية بسرعة الضوء، وبنفس السرعة يحققون العالمية، بدون حاجة لرصيد معرفي أو لتكوين أكاديمي، ولا حتى تجارب ميدانية مشهود لهم بها في مجالاتهم وتخصصاتهم..؟
الملاحَظ أن هؤلاء يكفيهم امتلاك أبجديات لغة شعبوية خالصة، وموضوعا مثيرا، وعناوين براقة، ليتربعوا عرش “الميديا”، وبين عشية وضُحاها يفرضون جماهريتهم على كل القنوات الإعلامية ، وعلى المجلات والجرائد، والكثير الكثير من قلوب وعقول المحبّين “fans” في مختلف أنحاء العالم ، بسرعة قياسية تفوق سرعة القنوات التلفزيونية نفسها ؛ أما الصحف الورقية، فتجد نفسها في موقف العاجز الذي يرى بِأُمِّ عينيه ما يجري أمامه، ولا يستطيع فعل شيء أمام سطوة وجبروت هذا “الإعلام الجديد”.
حقيقة أن قنوات التواصل الاجتماعي ،ومنها اليوتوب، فتحت مجالا خصبا للشباب ليبدع، لكنها بِتركها الأبواب مفتوحة ، يدخل منها الصالح والطالح بلا قيد، ولا شرط ، أسهمت في خلق إنتاج إعلامي جديد، موسوم بمواضيعه الرديئة وفيديوهاته التي ارتكزت أساسا على التفاهة والفضيحة ، و الكثير من المشاكل، وكذلك العشوائية والاستبداد من حيث أن هذه القنوات التواصلية تفرض عليك ما تريده هي لا ما يريده المتلقِّي .
وبهذه البضاعة الرخيصة حققت سوقا استهلاكية عريضة وشاسعة، تشمل بتغطيتها كل الكرة الأرضية ؛ وبالتالي تحكَّمت في خلق أو إنتاج مثقف من نوع جديد، زادُه الفكري ما يُقَدَّم له من فضلات منتقاة بعناية ، ومن بشاعة مختارة بدقة لا حدود لها… فحصدت بذلك أعلى الرتب من حيث نِسَب التتبع والمشاهدة.
إن ترجمة نسب النجاح بالأرقام الكبيرة التي تحصدها القنوات “الفضائحية” ، يفسر بلا شك جنوح المثقف المغربي والعربي على حد سواء، نحو استهلاك سلع فاسدة ومواضيع تافهة. وهي نسب ترسم صورة استباقية للمستقبل الثقافي لعالمنا العربي، وقد أضحى شبابنا، الذي يعيش في مجتمع مادي استهلاكي، يتغذى على هذا المستنقع الإعلامي الجديد. وهكذا يساهم “اليوتوب” في الانحطاط الفكري ، والنزعة الشوفينية، والأهواء السادية، لبعض شبابنا العربي ؛ و تبرز عدد “اللايكات”، التي يحصدها صاحب الخبر البراق ، مدى الانبهار بالعناوين الصفراء ، ومشاهد الفرجة الرخيصة التي تبدع فيها قنوات تتنافس على اقتناص الفضائح، على حساب المجتمع، دَيْدَنُها في ذلك الاستيلاب إلى جانب الربح المادي طبعا ، وشعارها: “كلما زرعت فضائح أبشع، حصدت جمهورا أوسع”، فجَنَت جرّاء سياستها الميكيافيلية ربحا وفيرا غير مسبوق، ولا كان منتَظَراً؛ وخلقت مشاكل اجتماعية غير مسبوقة وكثيرا من الضحايا.. وللأسف تفضح تعاليق المشاهدين جنوح الكثير منهم نحو ثقافة رخيصة مخجلة، مشحوذة بالسفاهة والتفاهة وانعدام الأخلاق .
يحضرني هنا وَضْعُ الكِتاب وقيمته..ومما يحز في القلب أكثر، أن هذا الكتَاب أضحى اليوم مرتعا خصبا للأرضة على رفوف المكاتب، بعد أن طال هجره وعزف عنه الشباب. فالمسالك التي اختصرتها بعض الصحافة “الصفراء”، أسهمت بدورها في ترجيح كفة الرداءة، بانجرارها نحو نفس المنحدر: العناوين البراقة والمثيرة والأخبار الكاذبة.. وحتى الشائعات، ممَّا يعكس انحرافها عمّا تفرضه أخلاقيات المهنة، وما يمليه الضمير المهني وميثاق الشرف، والتقاليد والأعراف المهنية المُتَعَارَف عليها. وكان من النتائج المباشرة لهذا الاكتساح عزوف هذه الصحافة عن دورها الرئيسي في المجتمع، من حيث إيصال المعلومة الصحيحة، وتنوير العقول، وخلق حس نقدي وشباب مثقف… والأفدح من هذا وذاك أنها لبست “كيمانو” المنافس لإعلاميي “السوشل ميديا” في حلبة المصارعة، باعتمادها الشعبوية خطا تحريريا، والفضيحة موضوعا استراتيجيا في باقة مواضيعها اليومية.
صحيح أن المثَل الدارج لدى المغاربة يقول :”عاند لا تحسد” ،لكن “لعناد” ، الذي يعني بالتعبير المغربي الْإِمَّعَة والمحاكاة، جعل ثلة من الصحفيين يجترون أسطوانات شعبوية بدل تقديم عمل ينضح ثقافة وعلما وتنويرا للرأي العام وخدمة للمجتمع. وكان من المفروض تقديم مساعدة وخدمة مَن هم أفقر معرفيا وثقافيا، وبالتالي تنشئة قارئ مثقف، ومتتبع محلل، وناقد بارع.
ما هي الحصيلة لحد الآن؟
الحصيلة هي أن كثيرا من قنوات “اليوتوب” امتلكت الغلبة والتمكُّن والسيطرة والاستحواذ بدون منافسة ولا نزاع. والأفظع أنها تمكنت، في وقت وجيز جدا، من خلق جمهور ببغائي، وشبابا يستهلك ، بِنَهَم ، كل ما يُقَدَّم له ، دون أدنى تحليل أو تقييم. جمهور طَيِّع ،خنوع، لكل تعليب شعبوي، ومردِّد حاذق لمايسترو القنوات اليوتوبية الرديئة، ووسائل الصرف الإعلامي ، من صحافة فضائحية التي أضحت المتحكم الرئيس في المشهد الثقافي العربي.. والعالمي.