عبد الرحيم التدلاوي
بعض الأعمال حين تقرؤها تقرؤك، وحين تسكنها تسكنك، وحين تغادرها لا تغادرك، تبقى بداخلك متحركة تثير فيك الدهشة، وتستفز أسئلتك، وتجعلك تعيد تقلبيها بحثا عن العناصر أو الخلطة التي مكنتها من التأثير فيك، ولا تتوقف عن البحث، فكلما عثرت على جواب، أزاحه آخر، أو عضده، وتلك سمة العمل الباهر للقاص المتألق سعيد رضواني “قلعة الماهات”، الصادرة عن منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة؛ وهي ثاني مجموعة قصصية بعد مجموعته الأولى “مرايا”.
المجموعة في 92 صفحة، وكُتِب على ظهر الغلاف ما يلي: “من أعلى الجبل إلى أسفل القصة، أركض بقدم وقلم؛ أركض بين الأعشاب والممرات؛ بين الجمل والفقرات؛ أركض باتجاه الأسفل؛ باتجاه محطتين: محطة السفر في القطار، ومحطة السفر في الإبداع”…
يأخذنا القاص، على امتداد إحدى عشرة قصة، بين مسالك سرده الوعرة، حيث كل قصة من قصصها تشكّل لوحدها متاهة.
لم يكن عبثا اختيار لوحة الغلاف التي تتوسطه صورة بإطار محاصر، تتشكل من رجل يقف عند عتبة المتاهة، مغمورا بضوء الشمس التي تقف على الطرف الآخر المحلوم به، لأنه المخرج والخلاص؛ يقف الرجل مديرا ظهره للمشاهد وقد شبك يديه كأنه في لحظة تأمل، قبل خوض مغامرة الانقذاف في المتاهة الزرقاء.
إن قراءة “قلعة المتاهات” مغامرة ضرورية لمغامرة الكتابة لا تحفل بكتابة المغامرة، بل القارئ هو من سيستكشف تلك المغامرة، ليعيد كتابتها تحت عنوان كتابة المغامرة؛ كتابة تتعلق به وبما اكتسبه واكتشفه أثناء دخوله المتاهات الساحرة والمغرية، هذا إن تمكن من الخروج، لأنه بدخوله الإرادي قد صار تحت قبضة المتاهات الإرادية والقلعة المحصنة معا. وسيكون القارئ محاصَرا بالقلعة، وداخل شبكة المتاهة، وعليه أن يمتلك روح المغامرة والإرادة الحرة والقوية، لتحقيق خروج آمن، صحبة زاد ثمين، وكأنه خرج من مغارة علي بابا محمّلا بالكنوز. وبكل تأكيد،لن يكون الخروج كما الدخول؛ ستطرأ تغييرات استوجبتها الرحلة في تلك الأدغال المتاهية.
“قلعة المتاهات”
يلقي السارد بجسد الحكاية في ممرات المتاهة بعد أن يقطعه ويجعله أشلاء، ويورطك في تجميعها وإعادة الحياة لها، يجعلك، بمكر، تقبض على وهْم الحكاية، لتحصل في النهاية على حكاية الوهم بشغب ولذة فنِّيتين؛ فالسارد بارع في توريط قرائه بجَرِّهم إلى متاهته وترْكهم يبحثون عن منافذ خروج؛ يدورون مثل الحكاية في دروب شبه مقفلة، لا يعطيك الحكاية مكتملة ولا سهلة القبض عليها، بل يبعثرها ويبعثرك معها أنت، أيها القارئ ؛ وعليك أن تجنِّد قدراتك للخروج من المتاهة بزاد قليل أو كثير، لا يهم. المهم أن تكون قد تورطت، وبقيت سجين قبضته ولو إلى حين.
تجد القاص، في بناء عوالمه، مهوُوسا بالتقنيات، كهوْس القاتل في قصة “استدراج” حيث الحدود الفاصلة بين الواقعي والخيالي معدومة، إذ أن طرق الفصل لا تتحقق كونها تنتمي إلى دروب المتاهة المتعددة. إن القاص لا يهتم بما يقول، بل بشكل القول وكيفيته، فالقصة من دون تقنيات مبتكرة مجرد تكرار لقول سابق، وعدم القدرة على سنّ طريقة جديدة تضيف إلى القص وتغنيه، تقود إلى النمطية والاجترار.
في”استدراج”، نجد قصة فضحت قاتلا يبغي الانتقام، ويعد الخطة الناجحة للإيقاع بضحيته التي هي الأخرى قد أعدت خطة للإيقاع بالقاتل ثانية، في دوران جهنمي لا ينتهي؛ إلا بانتهاء المجرم وراء القضبان وانتهاء القصة بهذا الاعتقال.
يقول هشام بن الشاوي عن هذه القصة: حين نقرأ قصة : “استدراج”، سيدهشنا هذا التداخل السردي ما بين ما حدث وما سيحدث؛ والكاتب لا ينشغل بالفكرة، بل بطريقة سردها، حيث يستدرج الكاتب القارئ، مثلما يستدرج السارد المجرم مرة أخرى.
القصة أقدر على تحقيق النصر من الواقع، لاسيما إذا كانت مصوغة بتقنيات مبتكرة؛ فالصنعة التي كُتبت بها القصة كانت بمثابة متاهة أوقعت القاتل في حبالها مرتين، وجعلته غير قادر على الانفلات من حبالها، وكذلك الشأن بالنسبة للقارئ غير الحذر أو الذي تعوّد على نمط من الكتابة لا يحيد عمّا رسم قبلا.
تشغل المجموعة عددا مهما من التقنيات في تشييد معمارها الفني والجمالي؛ فمنها العام الذي يكاد يستغرق العمل كله؛ ومنها الخاص بكل قصة على حدة؛ ومن الخاص نجد تقنية: الفراغ والامتلاء، كما في قصة “فوارق” (ص57 )، حيث في سير الرجل إلى المقبرة يكون في بداية المسير فارغا لكونه وحيدا، ثم في وسط الطريق والنص يكون ممتلئا بصحبة زوجته، ثم يعود للفراغ وحيدا أمام قبرها، ويحضر الامتلاء بتشغيل الاسترجاع بطريق ذكية وسلسة لا يشعر بها القارئ؛ وهو ما يمكن تسميته بحسن التخلص، وتُعدّ جملة: فأمشي في نفس المسار..القنطرة الرابطة بين الزمنين معا.
بالنسبة للعامة،نجد تقنية التوالد السردي، كما في قصة “صاحب الطاكسي”، إذ أن كل جملة ينطق بها السائق؛ وهي خلاصة حكاية سابقة؛ تولد أخرى جديدة.
أما التوالد اللغوي، فهو الصورة المهيمنة؛ ويمكن اعتباره خاصية المجموعة الأسلوبية المعطَّرَة بتوابل البلاغة. ولعل ما جاء على ظهر الغلاف يبيِّن ذلك، وفي الوقت نفسه يرسم علامة “زيكزاك” أو السير الحلزوني الجامع بين ضفتي السرد، حيث الانتقال من شخص لآخر، أو من مكان لآخر، أو من زمان لآخر، أو بين عنصرين طبيعيين أحدهما قاحل والثاني مُزهر.
من بين التقنيات لعبة المرآة أو الانعكاس الخالق للمفارقة الزمنية؛ كما في قصة “عجلة الزمن” (ص63 )،فرجل النافذة يقرأ ماضيه صحبة نسمته، من خلال مرآة الترامواي المعبّر، سيميائيا، عن الزمن الفاصل بين الراهن المرتبط بالمشاهدة،والماضي المرتبط بالذاكرة وما اختزنته من صور. ومحرك التذكر المسرح. إن أشياء الواقع لها دور في تنشيط الذاكرة وتحريك الأحداث بالرغم من وجود السارد في حالة ثبات.
لعل ما يثير الانتباه أن الجميع تحت عجلة الزمن، يتذوّق مرارتها. هذه العجلة الموجودة فوق النقوش. وتحتها نسمة والقيثارة وباقي الشخصيات الأخرى. عجلة تطحن الجميع بلا رحمة. إنها عجلة تظهر من أول رشفة للنص وتمتد إلى آخر القصة: تناديني من خلال صفحات بيضاء مزركشة بالحبر تعلو مقدمتها عجلة الزمن. (ص69).
تقنية التفاصيل الدقيقة
تعمل التفاصيل الدقيقة على بناء الوصف الحامل للدلالة من دون أن يصرح بها، يترك للقارئ إدراكها بنفسه عن طريق تجميع تلك القطع الدقيقة، كما البوزل، ليبلغ الصورة المطلوبة: أنزل من الأرجوحة وأشرع في أرْجَحَتها، وأنا أشفق على نحافة جسدها، وعلى عظامها البارزة، وعلى جلدها المتغضن؛ أشفق على جسدها الفاني الذي يدعو العين إلى الانغلاق، واليد إلى التعفف، والخلايا إلى النوم، والدماء إلى التجمد. ويدعوني إلى التحسُّر على الزمن الذي ركضت فيه سعادتنا ثم توقفت، دون سابق إنذار، لا تقوى على مزيد من التقدم. (ص61).
بتجميع التفاصيل الدقيقة، نكتشف مرض الزوجة القاتل الذي ظل ينهش جسدها إلى أن صيَّره عظاما قبل لفظه ميتا. وعلاقة برسم الجسد، نجد المجموعة تحتفل به، بين جسد ملوّث وآخر طاهر: الأول مدنّس والثاني مقدّس؛ الأول للغانية، التي تبيع جسدها لإطعام أسرتها، أو تشغله في “البار”، والثاني يرتبط بالزوجة أو الأم. ونجد الجسد المغري القادر على تحقيق الدوخة، والجسد الواقعي والمحلوم به، والجسد المادي والجسد المعنوي، وأخيرا، الجسد الكلي وهو جسد القصة.
لكن احتفاء القاص بالتقنيات لا يغيب جسد الحكاية، بل يجليه بطرق مختلفة عبر تلك التقنيات؛ فحين ننتهي من قراءة أي قصة، يمكن تجميع شتاتها في الذهن. كل ذلك بلغة مشرقة، سلسة وعذبة وانسيابية تمنحك المتعة وتشعرك بالدهشة.
يمكن لقصتَيْ “لحظات ومشاهد” (ص71 ) و”التحدي” (ص79 ) ،أن تقوما دليلا على تقنيات المجموعة وأهميتها في بناء القصص وطريقة تشكُّل الحكاية.